نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة «فاطمة واياو» تساءلت فيه عن سر إهمال والتغاضى عن كتب نوال السعداوى وذلك بعد عقدها مقارنة بسيطة بين الحركة النسوية فى أمريكا وبين مثيلتها العربية موضحة قوة تأثير كتاب الناشطة النسوية الأمريكية «اللغز النسائى» على ثورة النساء هناك، مما يؤكد تأثير الكتب التنظيرية فى الحركة النسوية على القضايا المتعلقة بالنساء... نعرض منه ما يلى:
ونحن نجتاز العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، يتملكنى شعور بأن أسئلة قديمة حديثة ما زالت تعود لتفرض نفسها على الرغم من أن لا أحد يستطيع أن ينكر ما تم إنجازه فى مجال الحقوق الإنسانية للمرأة، وهو على أى حال يكاد لا يتعدى كونه أَنتجَ تحالفاتٍ بين حركة نسوية نخبوية ونسائية الدولة، وهنا بالتحديد واقع الحال فى المغرب، غير أن الظرف يفرض العودة للإشكالية الجوهرية وهى الحقوق الإنسانية للمرأة فى المجتمعات العربية، ويصبح سؤال: ما الثغرة التى تجعل هذه الحقوق مثار مدٍ وجزرٍ حيث يشعر المتتبع وكأن ما يتحقق باليد اليمنى يُسلب باليد اليسرى؟
إن ما يشوب الحركة النسوية العربية بشكلٍ عام، والحركة النسوية المغربية على وجه الخصوص، هو هذا النقص الكبير إلى حد الانعدام فى ما يخص التوازى والتحالُف بين النظرية والواقع، بشكٍل أدق بين التنظير الذى يمثله الفكر والفلسفة من خلال مفكريهما ومثقفيهما وبين الحركة الاحتجاجية عبر الشوارع أو عبر أنشطة مختلفة أولا، وعبر مَواقع التواصل ثانيا وآنيا. فمن خلال تتبُع مسيرة الجمعيات النسائية والحركات الداعية إلى تمكين النساء العربيات عموما والمَغربيات على الخصوص، نقف عند حقيقة مهمة وهى أن الثغرة التى ظلت تشوب الفعل الجمعوى النسائى، كانت ولا تزال، تتمثل فى عدم الموازنة بين الفعل والتنظير لحركة نسائية اجتماعية فاعِلة اعتمادا على نظريات العديد من المُفكِرين العرب، رجالا ونساء، الذين قاربوا إشكالية واقع المرأة فى أبحاثهم وأفكارهم. هكذا يغدو سؤال: لماذا مثلا لا تُدرس أفكار فاطمة المرنيسى، ونوال السعداوى، مثالا لا حصرا، فى ورشات نسائية ويجرى تبسيطها لجعْلها أرضية فكرية لفعلٍ اجتماعى أكثر فاعلية؟
بالعَودة مثلا إلى كِتاب «اللغز الأنثوى» للكاتِبة والناشطة النسوية الأمريكية بيتى فريدان، فى إطار مُقارَنة بسيطة بين الحركة النسائية وزعيماتها والنخبة المثقفة فى أمريكا وبين واقعنا العربى، نرى أن ما أحدثه هذا الكِتاب من ضجة حول المُطالَبة بالحقوق الإنسانية للنساء الأمريكيات فى ستينيات القرن الماضى وسبعينياته، يجعلنا نقف عند أهمية التنظير والأخذ بنظريات مُنظِرات ومُبدِعات عربيات لم يدخرن جهدا لوضع الأصبع على مَكامن الجرح ومُحاوَلة إيجاد حلولٍ علاجية ومُناسِبة.
أفلا يحق لنا إذن أن نتساءل: أليست كُتب نوال السعداوى ورواياتها وسائل ناجعة للتوعية فى ما يتصل بكثيرٍ من قضايا المرأة الحقوقية فى المنطقة العربية؟ فلماذا يتم إهمالها والتغاضى عنها؟ ولكنْ لنرَ أولا ما التأثير الذى أحدثه كِتاب بيتى فريدان على المسيرة الحقوقية للمرأة الأمريكية؟
***
لقد شكَل كِتاب اللغز الأنثوى بالنسبة إلى النساء الأميركيات، وبخاصة ربات المَنازل، مُكاشفة بينهن وبين ذواتهن، لأنه بكل بساطة نُشر على نطاقٍ واسع، وسعت الحركة النسائية الأميركية حينها لجعْله بمثابة إنجيل لها ينير درب النساء المُطالِبات بحقوقهن وبضرورة الاعتراف بهن كأشخاص كاملين وكمواطنات كاملات المُواطَنة، بغض النظر عما كان يُروِج له الإعلام الرأسمالى المُشجِع على الاستهلاك من خلال ما إذا كن يُحسن تلميع أرضية المطبخ باستعمال آخر اختراعات الصناعة الأميركية أو يتقن استعمال آلة الغسيل. ومما أثار الضجة هو أن الكاتِبة انطلقت من استجوابات نساء كن زميلات لها فى الجامعة ولكنهن بأغلبهن كن ربات البيوت انطلاقا من تشجيعهن بأن أفضل الأعمال هو العمل المنزلى. بعد صدور الكِتاب سنة 1963، والذى أسَس للموجة الثانية للحركة النسوية، خرجت النساء الأمريكيات فى مظاهرات رافضات التدجين والاختزال لدورهن فى المجتمع الذى تُمارسه الآلة الرأسمالية عليهن. حتى قيلَ إن بيتى فريدان كانت للنساء بمثابة مارتن لوثر للسمر الأمريكيين.
هكذا نرى أن الكُتب التنظيرية والإبداعية فى الحركة النسائية أَحدثت تغييرات كبيرة فى قضايا النساء، فلِماذا يتم تجاهُل هذا المعطى المهم حين نروم تحقيق تقدم فى مسيرة القضايا النسائية فى المنطقة العربية؟ لماذا يتم ذلك، فى الوقت الذى تتوافر كُتبٌ ونظريات لناشطات ومُبدعات عربيات انطلقن من الواقع العربى الخاص لصَوغ النظريات والمُطالَبة بالحقوق الإنسانية فى قضايا تمس صميم المُجتمعات العربية وغير مُستورَدة من الخارج؟
صدق.. جرأة وواقعية
إننا لو أمعنا النظر مثلا فى القضايا التى عالَجتها نوال السعداوى نستنتج أنها كانت صادقة وجريئة وواقعية فى الكثير من القضايا التى جاءت، سواء فى كُتبها أم فى رواياتها. ففى ما يخص القضية المركزية التى شغلت ــ ولا زالت ــ العديد من المنظمات الحقوقية والنسائية، وخصوصا فى المشرق العربى، وهى قضية ختان الإناث، لم تكُن نوال السعداوى دقيقة فى تصوير حجم العنف المُترتب على الفتيات جراء هذه العادة السيئة فحسب، بل كانت صادِقة وجريئة وهى تسرد تجربتها الخاصة بها مع عملية الختان التى تعرَضت لها فى سن الطفولة فى روايتها «أوراقى... حياتى».
بدأت نوال السعداوى الطبيبة النفسية مَسيرتها النضالية والفكرية منذ أربعينيات القرن الماضى، حيث كانت ومن خلال عملها كطبيبة فى الريف المصرى، تقوم بالتوعية وبدراسة الآفات الاجتماعية والصحية التى كانت وربما ما زال بعضها ينتشر فى عددٍ من القرى المصرية. لم يكُن اشتغال السعداوى وحماستها نابعَيْن من ترف معين، بل إن ذلك يمثل عدم تنكرها لما شاهدته فى طفولتها، بل ولما عانت منه أيضأ. فهى كانت ضحية تقاليد وأفكار متخلفة تُمارِس الحيف والظلم والتسلط على النساء منذ الطفولة. ففى كلامها على عملية الختان التى أُجريت لها، والتى تصفها بالتفاصيل فى رواية «أوراقى... حياتى» وبالتحديد فى الجزء الأول، حيث تحكى عن حادث الختان الذى أفردت له فصلا كاملا، ما يشى بأن الحادث لا يُنسى ولا يندمل ويظل مُسيطرا على تفكير ضحيته إلى الأبد. تحكى نوال السعداوى: «فى مصر العام ١٩٣٧، فى السادسة من عمرى، كانت عملية «الختان» تُجرى لجميع البنات قبل أن يدركهن الحيض. لم تكُن واحدة منهن تُفلت فى القرية أو المدينة، فى الطبقة العليا أو الطبقة الدنيا، لم تُفلت أمى زينب هانم، لم تَستطع أمى أن تُنقذنى أو أى واحدة من بناتها؛ أنقذتُ ابنتى، وبنات كثيرات أخريات حين بدأتُ أكتب منذ أربعين عاما. فى السادسة من عمرى لم أستطع إنقاذ نفسى، أربع نسوة فى حجم الداية أم محمد تجمعن حولى، مكتوفة الذراعَين والساقَين، دقوا يدَى وقدمَى بالمسامير كالمسيح المصلوب».
ربما أن شجاعة نوال السعداوى كانت تُخيف الجميع بمَن فيهم النساء أنفسهن، فهى حاكَمت كل المجتمع وليس الرجال أو السلطة فقط. هكذا تحلَت بشجاعةٍ نادرة وهى تسرد قصتها، بكل تفاصيلها المُخجلة، والصادقة فى الآن عينه. فى سردها لواقعة الختان حاكَمت الجميع، جميع أفراد العائلة بمَن فيهم والدتها، لتعبِر بأن سلطة التقاليد أقوى بكثير من أحاسيس الأمومة، وهى حقيقة تجعلنا نتساءل معها وبكثير من الدهشة كدهشتها وهى طفلة: هل يُمكن لأم طبيعية أن تترك الغرباء يعبثون بأكثر مناطق الجسد الأنثوى حميمية، بل وأن يقتطعوا جزءا منها بلا رحمة ولا شفقة؟
ثمة منظِرات أُخريات بالطبع، غير أن ما يُميز نوال السعداوى وضوح مُقاربتها وسلاسة أسلوبها بما يجعل مؤلفاتها أداة طيعة وسهلة للتوعية وبث روح الشجاعة لهدْم أصنام الأفكار التقليدية الأبوية. فهى لم تكُن يوما تكتب من برجٍ عالٍ أو تتوجَه بسردياتها للنُخب؛ لم يكُن إبداعها ترفا، بل كان نضالا ومُقاوَمة. غير أنه وللأسف، فى الوقت الذى استطاع فيه كِتاب «اللغز الأنثوى» أن يُعبئ آلاف النساء فى أميركا إبان عقد السبعينيات من القرن الماضى، باتجاه المُطالَبة بالحقوق الإنسانية للنساء وإعادة الاعتبار لهن باعتبارهن مُواطنات لا آلات للإنجاب ولاستهلاك آخر صيحات الآلات المنزلية التى تُنتِجها المَعامل الرأسمالية فحسب، نجد أن العديد من الجمعيات والحركات النسائية والحقوقية تُغيِب هذا العامل المهم، ما أَحدث شرخا بين الواقع المعاش للنساء، والنخبة التى اختارت السرد المُناضِل والمكتوب بحبر مكوَنٍ من عرق ضحايا الاضطهادات ودمائهن المُختلفة. ولربما أن ذلك الإهمال غير المقصود دفعَ بالكثير من الفتيات والنساء إلى الابتعاد عن قراءة العديد من السرديات، وهو ما يخدم الجهات التى يُخيفها تحرُر الإنسان وانعتاق المرأة من أغلال الفكر التقليدى الأبوى الجامد.
جدير بالذكر أن الإهمال طاول العديد من الأعمال والسرديات، بدءا بأول متزعمة للحركة النسائية العربية هدى شعراوى وانتهاء بفاطمة المرنيسى مرورا بآسيا جبار. وأما التركيز على نوال السعداوى، فذلك لأنها، من وجهة نظرنا على الأقل، قارَبَت بأعمالها المُعاناة اليومية بأمثلة اجتماعية وبأسلوب مبسَط فكانت بذلك الأقرب لعقد المُقارنة بين إنتاجها وكِتاب بيتى فريدان.
ختاما نشير إلى أنه يُمكن الإفادة أيضا من بعض الكُتب التى ترصد واقعا مُغايرا وبعيدا وزمنا ماضيا ككِتاب «اللغز الأنثوى»، لأنه بعلاقته بواقع المرأة العربية اليوم يشكِل راهنية مُثيرة. وبالتالى، هو كِتاب مهم يجدر بالجمعيات التفكير فى تدريسه فى ورشات تدريبية مخصَصة للنساء والرجال، ليشكِل إضافة إلى ما أنتجته المُناضلة نوال السعداوى. فالهدف ليس نخبويا وتمكين فئة من الذين يتبوأون مراكز القرار، بل الهدف هو تغيير العقليات وتعميق الفكر التحررى المساواتى الديمقراطى فى صفوف كل فئات الشعب بنسائه ورجاله.
النص الأصلى