نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة سوسن الأبطح، تقول فيه إن مستوى التعليم فى العالم يتراجع بشكل موجع ومخيف وأصبحت المدارس عاجزة عن القيام بأقل واجباتها كتعليم القراءة والكتابة، كما تحدثت عن أهم أسباب تدهور أوضاع التعليم، والحلول المقترحة لمواجهة هذه المشكلة.. نعرض من المقال ما يلى.
كان هدف المنظمات الأممية والحكومات اليقظة، إلحاق أكبر عدد من الأطفال بالمدرسة، باتت المشكلة أن هؤلاء الأطفال يرتادون بالفعل صفوفهم كل يوم، لكنهم لا يتعلمون شيئا. وتعترف «اليونيسف» أن عدد غير المتعلمين الملتحقين بالمدارس يزيد على عدد غير الملتحقين بها، وتلك حقا كارثة غير مسبوقة. وضع مربك، لا يخص الدول الفقيرة والمتخلفة فقط ــ وإن كانت تحتل المراتب الأولى ــ لكنه يطول دولا بلغت من التحضر مبلغا، فالمستوى التعليمى يتدهور عالميا، ولا يبدو أن الوصفات الإنقاذية جاهزة.
وبمناسبة انعقاد «قمة تحويل التعليم» فى نيويورك هذه الأيام، أطلقت «اليونيسف» صرخة تحذيرية بأن مستوى التعليم فى العالم يتراجع بشكل موجع وخطير؛ إذ تبين أن ثلث الأطفال فى سن العاشرة قادرون على قراءة قصة بسيطة وفهمها فقط، مقارنة مع النصف قبل الجائحة، بسبب عجز المدارس عن القيام بأقل واجباتها، وهو تعليم القراءة والكتابة.
المجتمعون فى نيويورك يقترحون فتح باب الحوار بين الهيئة التعليمية والأهل والأولاد، كما رواد الأعمال والممولين، ليتمكنوا معا من وضع رؤى جديدة للتعليم، مختلفة عن السابقة التى تجاوزها الزمن. فنحن لا نزال فى طور التفكر، ونحتاج وقتا. السنة الدراسية تفتتح بأزمات مركبة. فى لبنان يبدأ العام بإضراب مع عجز المعلمين والتلامذة، بسبب غلاء البنزين، عن الوصول إلى المؤسسات التعليمية. كذلك فى تونس احتجاجات على سوء وضع الأوضاع المعيشية، وهذا حال دول كثيرة فى المنطقة والعالم.
فى فرنسا لم يقتنع المعلمون الذين هم فى الأصل رواتبهم قليلة، بوعود الرئيس إيمانويل ماكرون التطمينية، ويرونها ضبابية. لكن المشكلة أعمق من راتب يُرفع. فالمهنة كلها على المحك، والبلاد التى كانت ترى فى المدرسة الرسمية عنوانا للمواطنية، بات أهلها يفضلون المؤسسات التعليمية الخاصة، لأنها أقل سوءا. الأزمات سابقة للوباء، وكل ما فعله أنه سرع بها. فخلال 12 سنة، انخفض عدد المتقدمين للشهادة الأرفع، التى تؤهل صاحبها للتعليم، وكانت تعتبر فخر الشهادات الوطنية الفرنسية، من 40 ألفا إلى 12 ألف مرشح فقط. وبالتالى انخفض المستوى، وأصبح ثمة وظائف شاغرة بالآلاف لا يوجد من يريد ملأها. كما أن اللجوء إلى التعاقد المؤقت يقض مضاجع الأساتذة فى دول أوروبية كثيرة. وإذا كانت عين الفرنسيين على المدرس الألمانى الذى يعتبرونه أفضل حالا، فهذا أيضا دخل اقتصاده فى كسادٍ غير مسبوق، ولم يعد فى وضع يحسد عليه.
نقص المعلمين مشكلة كل أوروبا، فى ولاية ألمانية واحدة ثمة 4400 وظيفة شاغرة فى المدارس. وفى إيطاليا تمت الاستعاضة عن 150 ألف أستاذ ثابت بمتعاقدين مؤقتين، بينما تتحضر السويد لملء شغور 153 ألف أستاذ سيتقاعدون فى السنوات المقبلة. وفى بريطانيا الأزمة ليست أقل حدة، إذ تبدأ الاستقالات بعد عام واحد من التوظيف، وبمرور 4 أعوام يكون نصفهم قد ترك عمله. لهذا تضطر المدارس إلى التوظيف المؤقت وإلى قبول معلمين يدرسون فى غير اختصاصهم، وهو ما ينعكس سلبا على الطالب.
«لم تعد مهنة الأستاذ أجمل مهنة فى العالم».. هكذا قالت وزيرة التربية الفرنسية، متأسفة على ما آلت إليه الحال.
شهدت السنوات الخمس عشرة الأخيرة تغييرا عارما فى المناهج، فى محاولة للتأقلم مع التحولات التى تعصف بالمجتمعات، لكنها للأسف فى غالبيتها لم تأتِ بنتائج أفضل من سابقاتها، ما يعنى أن المدرسة لم تتمكن بعد من التأقلم مع روح المستجدات، وتستجيب لمتطلبات المستقبل. وربما من الخطير قراءة نتائج استفتاء، يرى خلاله الفرنسيون «أن المدرسة حتى إن كانت تعلم، فإنها لا تعد الطالب بشكل كافٍ لحياة مهنية، كما أنها لا تنقل إليه قيم الأدب والاحترام»، وهذا موضوع شائك آخر.
بالعودة إلى قصور التعليم وتدهوره، تقلق الهيئات الأممية ومعها جمعيات ومؤسسات، لأن هذا يعنى أن فقرا إضافيا، سيضرب المجتمعات، إن بقيت على ما هى عليه. فكل سنة دراسية ناجحة تضيف إلى مدخول الفرد 10 فى المائة، ونقص التعليم هو حرمان للإنسان من رغد العيش وحسن التفكير والتدبر.
يبقى أن خبراء كثرا، على عكس ما تركز عليه الأمم المتحدة، وهيئاتها المختصة فى التعليم، لا يرون المشكلة فى نقص التمويل وقلة الموارد، وإنما فى الإرباك الذى تعانيه المؤسسات التعليمية بشكلها التقليدى، أمام تدفقات المعارف السيالة التى تأتى من كل صوب، ولا تعرف المصالحة بينهما، بحيث تعيش لحظة ضياع واهتزاز.
ولربما عثر الكاتب ألفن توفلير على الوصفة التعليمية السحرية حين قال: «أميو المستقبل ليسوا الذين لا يحسنون القراءة والكتابة، وإنما الذين لا يحسنون التخلص مما تعلمونه، ليتعلموا ما لا يعلمون...».
وفى الصينية مثل جميل مكمل للفكرة «كيف أملأ كوبا ملآن، إن لم أفرغه من محتواه». الامتلاء عقبة أحيانا، وهو ليس أقل خطرا من الفراغ. هذا يذكر بجيمس برايدل وهو يقول: «ما زال أمامنا كثير لنتعلمه عن الجهل، فعدم اليقين ربما يكون مثمرا، بل مهيبا». ونحن نعيش فى هذه اللحظة المهيبة التى، بالانطلاق منها، تصبح كل الاحتمالات ممكنة.