أكثر من أربعين عاماً منذ انتقلتُ للسكن في مصر الجديدة وأنا أمر على هذا القصر العجيب ذهاباً وإياباً، أقترب منه جداً في طريق العودة إلى بيتي فتتاح لي فرصة لأتأمل هذا البراح الكبير الذي ينتهي بقصر تحرسه تماثيل لها رأس تنين كما هي العادة في المعابد الهندية وحضارات جنوب شرق آسيا، وأبتعد عنه وأنا في طريق الذهاب إلى عملي فيبدو لي من على البعد كمثل القصر المهجور الذي قرأت عنه في طفولتي ضمن سلسلة قصص المكتبة الخضراء وكمثله أيضاً ينتظر ساحراً يغيّر حاله فأسأل متى يزوره الساحر؟. أربعون عاماً أو يزيد وأنا أتحرك في محيط هذا القصر وأدور حوله، فكأن صاحبه اختار موقعه ليكون قريباً من كل الأشياء، مدرسة ابني حتى نهاية المرحلة الابتدائية، أوتيل البارون الذي يعرفه جيداً كل ذوّاقة تورتة الميل فوي الشهيرة والتي مهما تفننت في صنعها الفنادق الأخرى فإن تورتة فندق البارون تكسب البريمو، هذه الڤيلا التي تطل على القصر وتقاوم كل إغراءات البيع فأصحابها مغرمون بالقديم وأمام بوابتهم تصطف سيارات قديمة كاديلاك ومرسيدس ولا أفخم معرض للسيارات لكن تلك أشياء لا تُشترى كما يقولون، الأشجار القديمة متشابكة الأغصان التي تصادفها في الشوارع الخلفية والتي تسمح للعشاق بلحظات حرية نادرة مع تكدس القاهرة أكثر فأكثر. أما هو.. البارون إمبان نفسه الذي وقع في حب مصر واختار أن يعمّر صحراء مصر الجديدة فإنه يرقد هناك تحت المذبح في كنيسة البازيليك التي يُعّد معمارها بحق تحفة للناظرين، يرقد هناك غير بعيد وكأنه شاهد على القصر وشاهد على العصر.
***
مع كل هذا العمر ظلت علاقتي بالقصر كمثل علاقات الآخرين به علاقة سطحية، أسمع عنه عشرات الحكايات والأساطير كما يسمعون، عن ابنته التي انتحرت من الشرفة وهو الذي لم يكن له سوى ابن ولد، عن الأشباح التي تعربد في أرجاء القصر، وعن الحفلات الماجنة التي أقامها فيه عبدة الشيطان بعدما تسللوا إليه ليلاً وتستروا خلف ظلامه الدامس. فقط في صيف ٢٠٠٨ أتيح لي أن أتجاوز أسواره عندما جاءتني دعوة لحضور حفل زفاف في حديقة القصر، وهذا أمر نادر الحدوث جداً. أشعلَت هذه الدعوة فضولي بشكل المزيد عليه، ها أنا سأقترب منه، لن يكون على يساري نزولاً من مصر الجديدة ولا على يميني رجوعاً إليها سأكون في حرمه وداخل زمامه وسأكون منّي له، سأقضي أمسية كتلك الأمسيات التي نشاهدها في أفلام النصف الأول من القرن العشرين حيث الضيوف في كامل هندامهم بالبدل السموكينج والفساتين المنفوشة يرقصون الڤالس ومن يدري فلعل صوت ليلي مراد يأتينا من داخل القصر منشداً: أنا قلبي دلي ي ي ي لي! كدت أجن. لكنني لا أتعلم أبداً مرة ومرة وعشرين مرة أرفع سقف توقعاتي للسماء ثم أتدحرج معها إلى سابع أرض، نعم دخلت إلى الحديقة لكن لم يكن هناك ڤالس ولا غنت ليلي مراد، وعندما تسحبت لأدخل إلى القصر وأرى عجائب ما فيه كانت انفراجة الباب لعدة سنتيمترات كافية لأن أوّلي منه فراراً وأمتلئ رعباً، ظلام فوق ظلام ونسيج العنكبوت أستاراً تلو أستار، لم أكرر التجربة وساعدني على ذلك أنني لم أتلق أي دعوة جديدة لزفاف في حديقة القصر .
***
وها قد جاءت لحظة أخرى لتتبدل علاقتي بقصر البارون، انتهت أعمال ترميمه التي دامت لسنين وفُتحت زيارته للجمهور. ساهمَت عشرات الكاميرات التي راحت تتجول من طابق لطابق في مصالحتي على داخل القصر الذي بدا لي من قبل مخيفاً مفزعاً، وتكَفل الڤيديو الذي يصور كيف بُعثت الروح في هذا الأثر الحبيب بإحياء أشواقي القديمة لزيارته، وبعد تأجيل تلو تأجيل بسبب الكورونا أخيراً ذهبت إليه. أنا الآن داخل الحديقة، هنا مجسّم لمترو مصر الجديدة حاول بعض الأطفال التسلل إلى داخله فنهاهم أحد أفراد الأمن بأدب وتلك مناسبة للإشادة بأداء موظفي الأمن رغم قلة عددهم الملحوظ وكثرة عدد الزوار، هناك سيارتان قديمتان تقفان عند سلالم القصر، في كل مكان تتعايش التماثيل على الطراز الأوروبي مع التنين الآسيوي والآلهة الهندية وفي نقوش السقف أثر للزخارف الإسلامية، أرقُد في سلام أيها البارون البلچيكي الطيب فرسالتك بالضبط هي عكس رسالة صمويل هانتنجتون، أنت تؤمن بالتعايش وهو يحذر من الصدام ولا بأس إن انتصر تحذير هانتنجتون مؤقتاً فالسباحة عكس التيار لا تدوم، وكل مقاومة لطبيعة التعايش بين البشر هي سباحة عكس التيار. أدلف إلى الداخل، يلتقطني وأسرتي مرشد أربعيني عارضاً المساعدة وطبعاً رحبنا، أما المفاجأة فإن هذه الخدمة الثمينة كانت بلا مقابل وأقترح أن يكون هناك كما هو في كل العالم نوعان من التذاكر، نوع لزيارة مصحوبة بشرح ونوع آخر لزيارة بدون شرح. في كل اتجاه أشار إليه المرشد كان هناك أثر لإهمال كبير ولجهد كبير، هذه الفسيفساء التي أعيد تجميعها قطعة بجوار قطعة لتصنع جداريات حمامات القصر أكثر من بديعة، هذا الرخام البلچيكي الفاخر الذي تم جليه تُرِكت مساحة محدودة منه على لونها المتسخ (وربما حتى المحترق) ليتبين الفارق بين ما كان وما أصبح عليه الوضع وبضدها تتميز الأشياء، هذا المصعد الداخلي للطعام كان أعجوبة عصره وأوانه ونحن نتحدث عن مبني انتهي العمل منه في ١٩١١، أما هذه الأطر الفارغة وهذه الحجرات الخالية فكانت فيها لوحات وأثاثات ونجف وجميعها بيع في مزاد علني وذهب لأصحاب النصيب، غصة في الحلق .
***
في الطابق الأعلي الذي قيل إن ابنة البارون الوهمية انتحرت منه أنت تشرف على الكثير من المعالم الشهيرة، مسجد الثورة، قصر السلطان حسين الذي كان مدرسة مصر الجديدة والآن يجري ترميمه بعد فصله عن المدرسة، مكتبة مصر الجديدة، وهنااااااك توجد كنيسة البازيليك حيث يستريح البارون إمبان. أشار لنا المرشد من عل إلى حديقة القصر قائلاً ستكون فيها مجموعة من الكافيتريات و.... قبل أن يكمل الرجل كلامه كان قلبي قد انخلع... أخشى جداً من تأثير عاداتنا الغذائية المعروفة على نظافة المكان وبهائه. ثم إنه يوجد الآن بالفعل عدد محدود من الموائد المتناثرة كما توجد سيارة لبيع المرطبات وهذا يكفي ويزيد، فهل توجد بعد فرصة لتدارك الأمر أم إنه فات الأوان؟
***
إن كل أثر يعود للحياة هو بمثابة جرعة منشطة لذاكرة الوطن، وهو يمثل رد اعتبار للتاريخ والهوية واعترافاً بالفضل لأصحابه، فإذا كان هذا المليونير البلچيكي الراقد في قلب صحراء مصر الجديدة- التي ما عادت بصحراء- قد أهدانا تحفة معمارية بديعة فلعل من أبسط حقوقه علينا أن نحافظ على تحفته، وأن يسلمها كل جيل في شكل لائق إلى الجيل الذي يليه .