أبعد من حقوق العيش الكريم - سمير العيطة - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 7:02 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أبعد من حقوق العيش الكريم

نشر فى : الأحد 24 ديسمبر 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الأحد 24 ديسمبر 2023 - 7:25 م

دخلت الحرب الإجرامية على غزة والفلسطينيين شهرها الثالث. هذه الحرب، وأمام العجز الدولى عن إيقافها، هب اليمن ليدخل ورقة ضغط حقيقية وليعطل طريقا أساسيا للتجارة الدولية وليذكر أن المشرق العربى كان، ولا يزال، فى وسط العالم وأنه طريق التجارات التى جلبت معها منذ القدم ثروات ونهضة كما جلبت أيضا المصائب والويلات.
المشرق العربى كان طريقا قديما للتوابل من الهند.. طريق جعل من مكة المكرمة مصدرا لإحدى أهم الحضارات الإنسانية. وكان المشرق العربى طريقا قديما للحرير من الصين واليابان إلى العراق والشام. والتجارة العالمية هى التى خلقت مجد مصر الفاطمية والمملوكية وفى عهد محمد على، أى حتى قبل شق قناة السويس. لكن طرق التجارة ولدت أطماعا وأتت بغزوات متتالية من التتار والمغول والصليبيين وكانت وراء الاستعمار الحديث. كما كانت مدينة البندقية قد مولت حملات صليبية لا من أجل الدين... بل من أجل التجارة. وقامت الولايات المتحدة بغزو ليبيا أوائل القرن التاسع عشر نتيجة خلاف على حقوق عبور تجارية على شواطئها. كما قام نابليون بغزوته لمصر محاولا قطع طريق الهند البريطانية.
وفى زمن أكثر قربا، قامت انقلابات سوريا الأولى لتمرير خطوط النفط من العراق والسعودية نحو البحر المتوسط. وجاء العدوان الثلاثى على مصر من أجل قناة السويس، وحرب نكسة 1967 من أجل مضائق تيران على خليج العقبة. وكثيرا ما يعزى الصراع الحالى على سوريا كنتيجة تنافس بين خط لغاز قطرى نحو تركيا وبين آخر من إيران نحو المتوسط، أكثر منه صراع سنى ــ شيعى. وأن وراء حرب غزة اليوم مشروع قناة بحرية جديدة تربط خليج العقبة بالبحر الأبيض أو ممر بالسكك الحديدية يمتد من الخليج.
• • •
لكن مقاربة الصراعات على «ريع» الموقع الجغرافى تكتسى أهمية أكثر شمولا. إن الموقع الجغرافى يشكل اقتصاديا «ريعا» للدول التى تتحكم به، بقدر ما تشكل أيضا الموارد الطبيعية كالنفط والغاز والمعادن «ريوعا»، ولا ننسى أيضا تحويلات المغتربين والمساعدات الأجنبية. إن «ريع» عبور التجارة عبر بلد يجلب ثروات ولكن يجلب أيضا أمراضا اقتصادية «كالمرض الهولندى» الذى يكبح، رغم الثروات، تطور إنتاج البلد الزراعى والصناعى وتنميته.
ويبقى النقل الجوى جزءا لا يستهان به من التجارة العالمية وله أثر على السياحة. حيث تدفع شركات الطيران حقوق مرور للدول التى تمر فى أجوائها. وفى الوقت ذاته تكتظ بعض مسارات الطائرات، وترتفع كلف العبور، خاصة عندما تمنع بعض الدول تحليق شركات طيران دول أخرى. وهكذا كان مسار الطائرات الإسرائيلية معقدا نحو آسيا عندما كانت المقاطعة العربية قائمة. وكان مسار الطائرات الأوروبية نحو الخليج معقدا فى ظل حظر التحليق فوق سوريا ومسار الطائرات القطرية إبان الأزمة مع دول الخليج الأخرى والطائرات الروسية فوق أوروبا بعد حرب أوكرانيا. بالنتيجة يخلق سماح المرور بالأجواء ريعا للدول المعنية ويحول تغيير المسارات الريع إلى دول أخرى.
بالتوازى، غدت شبكات الإنترنت عنصرا فاعلا فى التجارة الدولية، خاصة عبر «الكابلات» التى تمتد فى البحار والمحيطات. هذه الكابلات تنقل الخدمات، بما فيها الاتصالات، حيث تتعاظم حصتها من تلك التجارة الدولية. وشركات الكابلات تدفع أيضا حقوق مرور للدول التى يتم التمديد عبر أراضيها أو على شواطئها أو فى مساراتها المائية. هكذا تمر معظم «الكابلات» الممتدة من آسيا نحو أوروبا عبر قناة السويس وتشكل مصدرا لريع لا يستهان به لمصر مقارنة بالنقل البحرى. وقد يشكل تحويل خطوط مرور هذه الكابلات نحو إسرائيل بدل مصر منافسة حقيقية لقناة السويس، ومنافسة أقل كلفة من شق قناة جديدة موازية أو خطوط سكة حديدية. علما أن تنويع مسارات مرور الكابلات يشكل ضرورة استراتيجية نظرا لتداعيات انقطاع الخطوط.
النقل البرى له، هو الآخر، أهمية كبرى. إن الطرق السريعة والسكك الحديدية وخطوط نقل الطاقة، من نفط وغاز وكهرباء، والموارد الطبيعية. فعلى صعيد التجارة العالمية، أسست الصين التى أضحت مصنع العالم سياساتها المستقبلية على «الحزام والطريق»، أى النقل البحرى والبرى، انطلاقا من واقع أن الربط البرى وتقليص كلفته يؤطر نمو الاقتصادات على جوانبه. إن شبكات الأقنية المائية ثم السكك الحديدية أسست لنمو الدول الصناعية منذ القرن التاسع عشر. واللافت أن اهتمام الدول العربية بشبكات هذه البنى التحتية منذ استقلالها ظل بطيئا ومتواضعا، إلا نادرا، سواء داخليا بين مدنها ومناطقها أو بين بعضها البعض. وظل فى أغلبه يعتمد على الطرق والسيارات بدل السكك الحديدية الأقل كلفة والأسلم بيئيا. «الريع» فى هذه الحالة حقوق «ترانزيت» عابرة للبلدان، بالنسبة للشاحنات وخطوط النفط والغاز والكهرباء.
وحدها أنابيب النفط والغاز تخلق «ريوعا» تخضع لاعتبارات سياسية واستراتيجية. ومن اللافت أن خطوط أنابيب النفط من السعودية والعراق نحو المتوسط ما زالت متوقفة. ولافت أيضا منع أوروبا لسنين طويلة مرور غاز بحر قزوين عبر تركيا. ولافت فى نفس السياق منع الولايات المتحدة وصول الغاز والكهرباء إلى لبنان عندما كانت الطاقة متوفرة فى مصر، حتى بتمويل من البنك الدولى.
يبقى النقل البحرى هو الأقل كلفة للبضائع ولا يخلق «ريعا» إلا فى حالات استثنائية، مثل قناتى السويس وبنما اللتين شيدهما البشر ومضيق البوسفور الطبيعى. هذه ممرات استراتيجية تخلق إيرادات بقدر ما توفر من مسافات مقارنة بالممرات البديلة. لكنها أيضا فرصة لتأطير نمو اقتصادات فى موانئ تستقطب خطوط التجارة البحرية. تبقى الأكثر استدامة بينها هى تلك التى تربط بين مسارات تجارة عالمية متنوعة بينها وبين التنمية الداخلية. هكذا تأتى أهمية قطب دبى من ربطه التجارى بين الهند وباكستان وإيران والسعودية. فى حين تأتى أهمية السويس وعين السخنة وبور سعيد من تموضع الصناعات فى بلد ذى قدرات بشرية كبيرة.
لكن دور الموانئ واستقطابها قد يتغيران مع التحولات الاقتصادية ــ والسياسية ــ الكبرى. فها هو انفجار مرفأ بيروت يرمز إلى نهاية دوره المركزى الذى رسمه له الفرنسيون بداية القرن العشرين. ليس فقط تجاه سوريا والعراق، بل أيضا تجاه الخليج. وها قد عاد دور حيفا الذى رسمه لها البريطانيون ليس فقط للاقتصاد الإسرائيلى بل أيضا لتجارة تركيا وغيرها مع الخليج.
• • •
صراعات المشرق العربى هى صراعات على الحاضر وعلى المستقبل. وليست فقط صراعات على الهويات والحقوق، وفى طليعتها حق الفلسطينيين بالعيش الكريم على أرضهم وكذلك حقوق شعوب جميع بلدان المنطقة. بل أيضا صراعات حول التنمية والتجارة، الحالية والمستقبلية، وخصوصا حول «الريوع» الحالية وتلك التى يتم رسم مخططاتها المستقبلية.
إن الصراع على غزة لتدميرها وتهجير أهلها له بعد اقتصادى واستراتيجى. ولا شك أن الإسرائيليين يجدون فرصة لتأسيس أرضيته. والصراع على اليمن له أيضا بعد اقتصادى وتجارى. بعد تفجر اليوم بوضوح مع انخراط اليمن فى الحرب. وكذلك الصراع على السودان. والحديث له أبعاده أيضا على مستقبل سوريا ولبنان.

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات