فى خضم الانتفاضة الفلسطينية الأولى التى اندلعت فى 8 ديسمبر عام 1987، وتصاعدت حدتها فى العام التالى 1988، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية لنجدة حليفتها وابنتها المدللة إسرائيل، سعيا لإيجاد مخرج بعد إخفاق قوات الاحتلال فى احتواء الوضع المتفجر فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وأرسلت واشنطن وزير خارجيتها آنذاك، جورج شولتز، عله يجد مخرجا للمأزق الذى كانت تواجهه تل أبيب.
جاء شولتز (تولى حقيبة الخارجية الأمريكية من يوليو 1982 حتى يناير 1989) إلى المنطقة حاملا ما جرى ترويجه وقتها بأنه أفكار لحلول وسطية للصراع العربى الصهيونى، فسارع إسحق شامير رئيس الحكومة الإسرائيلية وزعيم حزب «الليكود» وقتها، إلى إعلان رفضه أى قرار يجبره على الانسحاب من الأراضى المحتلة، فصعَّد الفلسطينيون من انتفاضتهم بما أفشل المساعى الأمريكية لتخفيف الضغط على إسرائيل.
وخلال جولات شولتز المكوكية تلك، أجريت حوارا مع الأمين العام لجامعة الدولة العربية الراحل محمود رياض فى مطلع يوليو 1988، كان عنوانه العريض: «التحرك الأمريكى هدفه التخدير».
وفى الحوار الذى نشرته صحيفة «الموقف العربى» تحدث السيد رياض (رحمه الله) بالتفصيل عن الخطط الأمريكية فى التعامل مع الانتفاضة الفلسطينية قائلا: شولتز يعلم مقدما أنه لن يقوم بشىء، إنما هى مجرد لعبة وعملية تخدير، فكل حدث يمكن أن يلحق الضرر بـ «إسرائيل» لابد وأن يلازمه دعوة من أجل السلام من جانب أمريكا.
وتدليلا على كلامه قال السيد رياض إن الأمر نفسه حدث عام ١٩٦٨ عندما شعرت واشنطن بأن مصر مصممة على الحرب فتقدم دين راسك (وزير الخارجية الأمريكى من 1961 إلى 1969) بمشروع انسحاب إسرائيل من سيناء فقط، وفى عام 1969 عندما وجدت الإدارة الأمريكية تدفق الأسلحة السوفيتية على مصر، تقدم وزير الخارجية الأمريكى وليم روجرز بمشروعه الأول (مبادرته أغسطس 1970)، وفى عام 1973 وعندما تعرضت إسرائيل لهزيمة سارعت أمريكا لنجدتها عسكريا ثم دبلوماسيا.
وكما يقال ما أشبه الليلة بالبارحة، ها هو وزير الخاريجة الأمريكى أنتونى بلينكن يمارس لعبة شولتز القديمة، وهى نهج ثابت لوزراء خارجية الولايات المتحدة فى التعامل مع الصراع العربى الإسرائيلى، استخدمه راسك، وروجرز، والداهية هنرى كيسنجر، ووارن كريستوفر، وغيرهم.
لا يكف بلينكن الذى أعلن صراحة عن يهوديته، وانحيازه الفج لإسرائيل عن القيام بكل ما يخدم تل أبيب، وتوظيف جولاته المكوكية فى المنطقة لإيجاد مخرج يحفظ ماء وجه رئيسه جو بايدن الذى يتعرض لتحدٍ سافر من رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، الذى صرح علانية برفضه لكل اقتراح أمريكى لا يضمن لقوات الاحتلال القيام باجتياح واسع لمدينة رفح جنوب قطاع غزة بما يهدد حياة مئات ألوف المدنيين.
جلس بلينكن فى «كابينت الحرب» الإسرائيلى، اقترح، ونصح، وحذر من استمرار التوسع فى قتل المدنيين الفلسطينيين، لكن كما واجه شولتز تعنتا من شامير، قوبل بلينكن بالأمر ذاته من نتنياهو فى آخر لقاء بينهما (الجمعة 22 مارس الجارى) حيث أكد الأخير بكل صلف وغرور عزم إسرائيل اجتياح رفح «لتحقيق الانتصار على حركة حماس، بدعم واشنطن أو من دونه».
فى المقابل، نقل موقع «أكسيوس» الإخبارى الأمريكى عن مصدر مطلع قوله إن بلينكن حذر نتنياهو ووزراء مجلس الحرب المصغر من أن أمن إسرائيل ومكانتها فى العالم «معرضان للخطر»، بسبب تداعيات الحرب فى غزة، كما أبلغ بلينكن نتنياهو بأن عليه وضع خطة «متماسكة» لليوم التالى للحرب وإلا فإنه «سيسقط فى مستنقع غزة».
وبينما كان وزير الخارجية الأمريكى يكيل النصائح لنتنياهو، سقط مشروع قرار أمريكى فى مجلس الأمن الدولى لا يدعو إلى أو يطالب مباشرة بـ«وقف فورى ومستدام لإطلاق النار» فى غزة، بفيتو روسى ــ صينى «مزدوج»، واعتبره المندوب الروسى، فاسيلى نيبينزيا «مسيّس بشكل مبالغ فيه، وهدفه الوحيد هو استرضاء الناخبين» الأمريكيين، فى حين وصف بلينكن «الفيتو»، ضد مشروع القرار بـ«الخبيث»، لتستمر اللعبة الأمريكية فى دعم إسرائيل بوجوه جديدة ونهج قديم.