الموازنة التوسعية التى أقرتها الحكومة المصرية عن العام المالى 2018/2019 بقيمة مصروفات تزيد على تريليون وأربعمائة مليار جنيه، وبزيادة قدرها 200 مليار جنيه عن موازنة العام المالى السابق، تأتى فى سياق مفعم بالتفاؤل الاقتصادى تجاه عدد من المؤشرات الاقتصادية. ففى حين اتجهت معدلات التضخم السنوى نحو الاستقرار تحت 13% نزولا من متوسط شهرى تجاوز 23% خلال العام المالى السابق، بل وتجاوزت 33% فى بعض الأشهر. بدأت أسعار الفائدة تتخذ اتجاها نحو الانخفاض بمائة نقطة أساس، بعد ارتفاعات متتالية بلغت 700 نقطة أساس منذ قرار التعويم، فى مؤشر مهم باتجاه السياسة النقدية نحو التوسع التدريجى، الذى يشجع الاستثمار المباشر المحلى والأجنبى، وهو أيضا محفز بتحسن مستمر فى النظرة المستقبلية للتصنيف الائتمانى لمصر، والتى تحولت من نظرة سلبية إلى مستقرة ثم أخيرا تحولت إلى نظرة مستقبلية إيجابية.
الموازنة الجديدة مازالت فى هيكلها موازنة بنود، لكن وزارة المالية أمكنها أن تعكس البرامج المتضمنة بشكل أكثر نضجا واحترافا من موازنتى العامين السابقين. سواء برامج التنمية البشرية والمحلية أو الإنفاق على شبكة الحماية الاجتماعية أو أوجه الإنفاق الاستثمارى الذى صار النمو المستهدف محفزا به بنسبة أكبر.. كلها تعكس هذا التطور.
معدلات النمو المستهدف فى الناتج المحلى الإجمالى بلغت فى تلك الموازنة ما نسبته 5.8% مقارنة بنسبة 5.2% فى العام المالى السابق. كما يستهدف مشروع الموازنة تراجعا فى العجز الكلى من 9.5% عجزا متوقعا فى الموازنة السابقة و 10.9% عجزا فعليا فى العام المالى 2016/2017 إلى عجز كلى متوقع نسبته 8.5% فقط. كذلك حرص واضعو مشروع الموازنة الجديدة على تحقيق فائض أولى مستدام يدور حول 2% صعودا من فائض أولى مستهدف فى الموازنة السابقة لا يتجاوز 0.02%.
***
معدل نمو الدين العام وخاصة الدين الخارجى، فضلا عن مستوى الدين الداخلى كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى هو من المخاطر التى تضمنتها مختلف التقارير الاقتصادية الدولية المعنية بتحليل الاقتصاد المصرى. لا ينافس الدين العام كعنصر مخاطر شديد الإلحاح سوى معدلات التضخم التى بدأت تتحسن كما أشرنا سابقا. تستهدف الموازنة الجديدة خفض نسبة دين أجهزة الموازنة العامة إلى الناتج المحلى الإجمالى من 98% مستهدف عام 2017/2018 إلى 94% فى العام 2018/2019 ثم إلى 88% فى العام التالى. هذا الاتجاه يعكس التفات الحكومة إلى أزمة المديونية والتى تلقى بظلالها على الأجيال القادمة وتزيد من صعوبة الاستدامة المالية للموازنة. لكن توجيهات رئيس الجمهورية فى اجتماعه برئيس الحكومة ووزارة المالية لمناقشة تفاصيل مشروع الموازنة، اتجهت بوضوح نحو إيجاد حلول مستدامة لأزمة الديون، ووضع قيود على التوسع فى هذا البند الذى يعد البديل الحاضر دائما لسد الفجوة التمويلية. كذلك يؤكد على هذا الاتجاه الحكومى الحذر تجاه أزمة تفاقم المديونية ما سبق الإشارة إليه من حرص على تحقيق فائض أولى فى الموازنة، ونمو الإيرادات بنسبة أكبر من نمو المصروفات، وهو ما يعنى كفاية الإيرادات المتوقعة لتغطية المصروفات المخططة لو استبعدنا المكون الأكبر فى الموازنة والذى يعبر عن خدمة الدين.
إجمالى الإيرادات الضريبية يتوقع أن تزيد بنسبة ضئيلة جدا مقارنة بالعام المالى السابق لتبلغ 14.5% من الناتج المحلى الإجمالى مقارنة بنسبة 14.2% مستهدف 2017/2018. هذا الاستقرار فى الحصيلة الضريبية رغم استهداف توسيع قاعدة الممولين ونمو الإيرادات بصورة متزايدة، هو أيضا مؤشر على الاتجاه التوسعى فى الموازنة.
تستهدف الحكومة أيضا رفع معدل الادخار إلى 10% ومعدل الاستثمار إلى 15% فى العام المالى 2018/2019 وهى معدلات منخفضة للغاية بالنسبة لدولة تريد أن يكون نمو اقتصادها محفزا بالاستثمار أو التصدير.
***
الإشارات الإيجابية التى أتى بها مشروع الموازنة الجديدة فى سياقها التفاؤلى آنف الذكر، واكبها إعلان الحكومة المصرية عن برنامج للطروحات فى عدد من الشركات المملوكة بنسب متفاوتة من قبل وزارة المالية. الطروحات الأولية والثانوية لشركات رابحة تمنح البورصة المصرية دفعة قوية للقيام بدورها الأصيل كمصدر للتمويل، ومرآة تعكس النشاط الاقتصادى بصفة عامة، ومنفذا للتخارج. كذلك تمنح الشركات بديلا آمنا واقتصاديا لتمويل مشروعاتها التوسعية وأنشطتها الاستثمارية، وتوسع من قاعدة ملكية تلك الشركات، بما يعزز من أسباب حوكمتها، لما يتطلبه الطرح فى البورصة من إفصاح وشفافية. هناك ضرورة أيضا لإعادة توجيه وتعبئة السيولة فى منتجات مالية أكثر إنتاجية من الأوعية العقارية أو الإنفاق الاستهلاكى البذخى أو الاكتناز خارج الجهاز المصرفى.. كل ذلك يمكن توفيره عبر بورصة الأوراق المالية بكفاءة.
مشروع الموازنة لم يخرج عن رؤية مصر 2030، وهو كما ورد بمنشور إعداد الموازنة نصا «يستهدف تحقيق استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلى لضمان اتساق وتكامل السياسات المالية والنقدية المتبعة، وبما يوفر بيئة مستقرة تعزز الثقة فى أداء وقدرة الاقتصاد المصرى».
المؤشرات الأولية المتاحة فى منشور الموازنة للعام 2018/2019، مازالت تنقصها التفاصيل. مازلنا نرقب قيام وزير المالية بعقد مؤتمره السنوى المعتاد والمتميز لعرض أهم المؤشرات، ومناقشتها مع المختصين وأهل الإعلام، فضلا عن توزيع كتيب «موازنة المواطن» الذى يسد الفجوة بين عمل مهنى شديد التعقيد، وبين حاجة المواطن العادى إلى التعرف على مصروفات وإيرادات حكومته وانعكاسها على حياته فى صورة أجور ورواتب ودعم ومشروعات تنموية تخلق فرص عمل، تنتقل بمعدل البطالة من نحو 13% إلى 11.2% مستهدفا للعام المالى المقبل.
يلاحظ أيضا من منشور إعداد الموازنة حرص الحكومة على الاستفادة من آراء الخبراء والمختصين، واستخدام عبارات ذكرت حرفيا ضمن تعقيبات الحضور فى مؤتمر مناقشة الموازنة العامة للعام 2017/2018. الاهتمام بوقف نزيف الهدر والفاقد من حصيلة الضريبة عبر قنوات التهرب الضريبى، ومثله من قنوات تهدر من خلالها الطاقة ومختلف الموارد الطبيعية.
***
الجهود التى يقوم بها رئيس الوزراء المهندس شريف إسماعيل تستحق الإشادة والتقدير، خاصة فى ظل ظروف صحية صعبة مر بها أخيرا، نسأل الله أن يكون قد تعافى منها تماما بغير سوء، وفى ظل صعوبات اقتصادية استثنائية تعيشها مصر وتدركها قيادتها السياسية. لا يقلل ذلك من قيمة جهود وزير المالية ونوابه ومعاونيه. كما أن روح التفاهم والتعاون بين أعضاء المجموعة الاقتصادية فى الحكومة الحالية بدت واضحة فى انضباط التصريحات الصادرة عنهم، بل وفى بعض بنود وبرامج وتنبؤات مشروع الموازنة.
الموازنة العامة للدولة هى بمثابة تخطيط مالى قصير الأجل للحكومة، وهو الذى تضعه قبل نهاية مارس من كل عام أمام نواب الشعب من أجل دراسته ومناقشته فى لجنة الخطة والموازنة، ثم فى الجلسات العامة، وتعد الموافقة على الموازنة قبولا لذلك التخطيط، وإنفاذا له اعتبارا من بداية يوليو وحتى نهاية يونيو من العام المالى التالى.