قال الناشط الشاب وهو يصحبنا إلى داخل القرية: يا ريت يكون عنوان مقالك «القرية المنسية». قلت منسية إزاى وهى على بعد أقل من ساعة من وسط البلد؟ الطريق العام بره البلد واسع ولطيف؛ لولا الزبالة والمياه الراكدة لقلت عليه جميل. قسم البوليس على هذا الطريق العام، وأيضا الجامع الكبير الحديث. على حرف البلد ثمة مبانٍ منخفضة ببرجولات من خشب، تتسلقها خضرة مزهرة. نترك الطريق العام إلى أحد مداخل البلد فنجد الشوارع التراب تنحنى انحناءات مفاجئة وحادة، والمبانى أقيمت بالجهود الذاتية، والملصقات على الحوائط على درجات مختلفة من الاهتراء. الأطفال فى الشارع، الشباب يقفون على أبواب المحلات القليلة، السيدات يقفن ويجلسن على عتبات البيوت. قرية مصرية كل شىء فيها عادى جدا وكأن شيئا لم يكن، وكأن شيئا لم يحدث فى هذا البلد فيضرب قلبى ويدفع بى من بيتى إلى هنا.
و«هنا» أمشى، عصر أمس الأول الاثنين، فى نفس الشارع الذى سَحَل فيه الناس أربعة قتلوهم، ولم يمر أربع وعشرون ساعة على الحدث والبلد يبدو عاديا والناس فى الشوارع عادية. يرقبوننا طبعا، وهذا عادى أيضا، فنحن أغراب على البلد، يسألون إن كنا «صحافة» أم «حقوق إنسان» ثم يتابعوننا بعيون محايدة ــ أو لنقل بعيون تحتفظ بحق الحكم علينا وترجئه. لا أشعر إطلاقا أن البلد لديه ما يداريه أو يخجل منه أو يخافه.
ننعطف يمينا فى شارع ضيق. وراءنا وحولنا رزمة من الأولاد، يتوقفون ويشيرون: أهو ده البيت. باب حديد كبير. كان يمكن أن نمر عليه عادى كما مررنا على الذى قبله. لكن الباب الحديد موارب، وحبل يربط الضلفة فى الضلفة. ووراء الباب صمت. أسأل: أهو ده البيت اللى إيه؟ يقول الأولاد ده البيت اللى فيه الناس. فيه الناس اللى إيه؟ فيه الناس اللى ــ حصل فيه ضرب. ضرب بس؟ آه ضرب، ضربوهم. مش فيه ناس اتقتلت هنا امبارح؟ لأ ــ بحماس وأصوات عالية ــ لأ الناس اتعورت بس. اللى مات ده من بره مش من هنا. من بره ولا من جوه يتقتل ليه؟ عشان كان بيشتم الصحابة ــ ياولاد إنتوا سمعتوه؟ آه كان بيشتم. سمعتوه بودانكم؟ لأ بس هم مسجلين لهم فيديوهات - انتوا شفتو الفيديوهات؟ لأ بس هم مسجلين لهم.
دفعنا الباب فاتضح أن وراءه كميات مكدسة من الآثاث الثقيل. نادينا على أصحاب البيت واستأذنا، فنزلت شابة من الطابق الأعلى لتقابلنا. أدخلتنا وأعادت ربط الباب بالحبل. زنقنا وتسلقنا عبر المتاريس. وجدنا مسكنا فسيحا، عالى الأسقف، كل ما فيه مهشم. أوانى المطبخ كلها فى الأرض، مبعثرة، الثلاجة هيكل متهاوٍ على جانبه منزوع الباب، الطوب والردم متناثر فى المكان والحوائط تحمل آثار الطوب والنار. المنظر أعادنى إلى الصور التى نراها من البيوت الفلسطينية بعد اجتياحات الجيش الإسرائيلى. رائحة رطبة تملأ المكان؛ رائحة الجزء من السوق الخاص بمحال الجزارة فى آخر النهار. الشابة تمشى أمامنا وتشير: شايفين؟ بصوا! بصوا هنا! شايفين؟ هى نفسها تنظر إلى الأشياء غير مستوعبة. نصعد السلم.
هذا بيت فرحات على محمد، والشابة التى نزلت لنا ابنته، وفى الدور العلوى وجدنا زوجته، السيدة كسبانة حسن عبدالعزيز، وابنة ثانية وطفلين. الطفلان صامتان تماما، يتعلقان بثياب أمهما أو يتكومان فى ركن الغرفة وينعسان. هنا أيضا كل شىء مهشم ــ بما فى ذلك زجاج الشباك الواسع. الزجاج المهشم كله على الكنبة أسفل النافذة وعلى الأرض. الزجاج المهشم خطر جدا على الأطفال، لكن الكبار يحتفظون به هكذا لأنه أحد الدلائل على ما جرى لهم: «شايفة؟ كسروا القزاز ع العيال، وأقول لهم والنبى، والنبى عشان خاطر الأطفال، كنا بنخبى الأطفال تحت المخدات عشان القزاز والطوب ـ » التعبير الغالب على أوجه السيدات الثلاث هو عدم التصديق. وراء الحزن، وراء الغضب، وراء الهلع، وراء البكاء والندب والتحدى هناك دائما عدم التصديق: «يقولوا علينا كفرة؟ اللى يحب سيدنا النبى وأهل بيته كافر؟ طب كفرة، ولو كفرة يا ستى حضرة النبى كان الكافر ريحه. عمل له إيه؟ كان بيعطف عليه. واحنا يعملوا فينا كده؟ أقول إيه؟ أقول إيه على بيتى اللى اتخرب؟ حتى رجالتى مش عارفة راحت فين: المركز ولا المستشفى ولا النيابة، شايفة؟ شايفة دمنا ع الحيطان؟» وهناك فعلا تلطيخ على الحائط، وهناك ثقب كبير فى السقف حيث صعد المهاجمون إلى السطح وضربوا السقف بالمرزب ليكسروه ويقذفوا منه زجاجات المولوتوف. وكالعادة فى كل بيت مصرى هناك شقة تجهز لعريس، وفى هذا البيت لهم ثلاث سنين يعدون الدور العلوى سكنا للابن، العريس، وكانت الشقة والجوازة واقفة على السقف، ثم جاء الرزق فشيدوا السقف، «من شقاهم، من شقا الولد وأبوه». والأب، صاحب هذا البيت، فرحات على محمد، مبيض محارة - «شايفة النار؟ شايفة النار ع الحيطة؟ ولعوا فينا» وهناك فعلا علامات الحرق على الجدار.
أنا والأم، صاحبة البيت، نجلس على الأرض على رأس السلم المؤدى إلى الطابق الأسفل. ابنتاها تروحان وتجيئان. كل الأعمال والأنشطة العادية التى تشغل اليوم معلقة: ليس هناك مطبخ تعد فيه الواحدة الأكل أو الشاى. لا يمكن ترتيب أو تنظيف المكان. الرجال متغيبة. الأطفال مكومة نائمة جنب الحيط ــ «دهبى اتسرق يا خالتى» «سيدنا النبى ماكانش يقول كده»، «سرقوا الأنابيب، سرقوا مواتير التلاجات، شقة عريس» «استكتروا علينا الفرحة» «أبو منجى مات!» «مات؟» «طب أنا عايزه أفهم: مين؟ مين اللى عمل ده؟ عارفاهم؟» «الإخوان والسلفية. عارفاهم واحد واحد. ده راح شادد ودنى وواخد الحلق من ودنى» «كنا بنخبى الأطفال فى المخدات عشان الطوب لما بقينا نتمنى نموت ولا نشوفش اليوم ده» «أربعة متصابين من بيتى ومش عارفاهم فين. أنا ما أذيتش حد. يا ريتنى أذيت حد عشان كنت أحس بالذنب. ضربوا ابنى وانا ربطته. شايفة الدم؟» قطعة من القماش، من القطن الأبيض عليها طبع ورقة شجر صغيرة داكنة مكررة، وعليها بقع من دماء. أطويها وأعيدها للفوضى على الأرض. «هو حضرتك - إنتوا يعنى عايشين هنا من زمان؟» «احنا أصل البلد يا ستى. أصل البلد. ده أنا خالى الحاج فتحى أبو سالم» «والناس اللى عملوا ده من البلد برضه؟» «كلهم من البلد. اللى أكل عيشى وملحى، اللى ربيته -» «طب حد وقف معاكم؟ حد حاش عنكم؟ الجيران؟» «الجيران هم اللى عملوا كده. مافيش بلطجى جه من بره. كلهم من أهل البلد. الستات واقفة تحرض. بقوا يدَخَّلوا الناس علينا. يُدْخلوا يكبروا ويدبحوا. الله أكبر الله أكبر ويدبحوا. ماراعوش حتى إن فيه حريم. واحد قاللى هاتوا الأطفال وأولعوا انتم. دخل على ابنى اللى عاطيله الأمان وضربه. ضربوا أبويا على دماغة».
فى هذه الحكاية نزلت المصيبة على هذا البيت لاستضافته الشيخ حسن شحاتة، الإمام السابق لجامع صلاح الدين فى المنيل، والذى كان فى الماضى مع معسكر الجيش فى أبوالنمرس ومن هنا جاءت المعرفة - جاء ضيفا على بيت فرحات على محمد للاحتفال بليلة نصف شعبان، فحادثهم أحدهم فى التليفون وسأل إن كان حسن شحاتة عندهم. قالوا نعم فقال عليه أن يخرج. قالوا أنه لن يخرج فهو ضيفهم. بدأ الناس فى التجمع خارج البيت: «ابتدت بشوية عيال صغيرة. لقينا التتار وراهم. قفلنا الباب انهم يمشوا - والله يادوبك الراجل كان دخل. نص ساعة. لا أكل ولا شرب ولا داق مية بيتنا -» تحت ضغط الشارع والتهديد بحرق البيت قال الشيخ حسن «وسعوا لى» وقام فخرج فضربه الناس إلى أن مات. لكن حتى قتله وقتل ثلاثة معه وسحلهم لم يوقف الهجوم على البيت.
«كان عندكم مشاكل قبل كده؟» «من ساعة ما مسكوا وهم بيحرجونا. لو رايحين نجيب عيش: ماتدوهمش دول كفار، بوتاجاز: ماتدوهمش دول كفار، واحنا ما بنجيش جنب حد -» «طيب قبل كده؟ يعنى من سنتين مثلا؟ كان فيه مشاكل؟» «لأ ماكناش بنسمع عن الحاجات دى أبدا. كان بس أمن الدولة أيام مبارك كل شوية ييجى يسأل، ياخد حد، يقول شيعة وكده، بس فى البلد مافيش الكلام ده..».
الصحافة بدأت تتوافد. ومندوبان من لجنة حقوق الإنسان بالشورى، أحدهما صامت ويبدو لطيفا، والثانى، المتحدث، تنقصه أى قدرة على التعاطف. الأم جالسة على الأرض والبنات رايحين جايين. «ماتصوروش حريم. صوروا البيت بس» تحت، عند باب البيت من حين لآخر تحدث دوشة فتتحفز النساء إلى أن تخبو. من حين لآخر ينفلت ولد من القرية فيطلع السلم إلينا فتطرده ربة البيت. «ودلوقتى هتعملى إيه؟» «ّهاعمل إيه يعني؟» «هتفضلوا هنا؟، ولا هيضايقوكم؟» «يضايقونا مايضايقونا يعنى هاروح فين؟ أنا حيلتى إلا البيت ده؟ العيال طالعين الصبح يقولوا لى لو مامشيتيش هنفجرلك البيت. إحنا قاعدين لك بره. طب حد بيحب سيدنا النبى وسيدنا الحسين تبقى دى جريمة. بيقولوا بيشتموا - ده أنا اتمنى يجعلنى التراب، التراب اللى مشيت عليه ستنا الزهرا -».
الأقارب من الرجال الذين يأتون إلى البيت يطلبون توفير الحماية، يتوقعون اللحظة التى سوف يضطرون فيها للدفاع عن السيدات «واحنا ناس على باب الله، حرام لما تودونا فى داهية، واحد يضرب واحد يروح فى داهية -».
بره فى الشارع الشباب يبرر ما حدث. الكل يعرف الآن كيف وحدت الجوامع فى البلد الخطبة ضد الشيعة منذ ثلاثة أسابيع، ثم خرجت مسيرة تلقى التهم عليهم. الملصقات فى الشارع تقول «الدعوة السلفية: حملة لجنة مواجهة المد الشيعى. سب أمهات المؤمنين والصحابة خط أحمر. لن نصمت» وأيضا: «هل تضع يدك فى يد من سب أمك ورماها بالفاحشة» ثم الآية السادسة من سورة الأحزاب، ثم «يطلب من دار المجد للنشر والتوزيع. ت 01111447887». كل شاب فى الشارع يقول إنه ليس ممن فعلوا لكن الفعل مفهوم لأن الرجل لم ينزل حين طلب منه النزول، ولأن مش عايزين حسن شحاتة فى بلدنا، همهمات عن احتفال ورقص وشتيمة للصحابة وزواج متعة وعرى وأفعال مشبوهة لا يسميها أحد لكنها تستوجب تنظيف اسم زاوية أبو مسلم التى فضحت فى العالم. «حد كان سمع عن زاوية أبو مسلم قبل كده؟» كل سؤال وكل تساؤل يقابل بالتبرير وبالإصرار على ان مش ممكن أهل البلد نفسهم يتعمل فيهم حاجة والمشكلة كانت فى الغريب. حين نقول ان أهل البلد اتعمل فيهم حاجة فعلا فأصيبوا ودمر بيتهم يأتى الرد «عشان ما نزلهوش على طول».
رحم الله القتلى. أما عن الأحياء فإحساسى أنهم فى خطر، وأن الشحن الموجود فى البلد ليس له طريق ولا سبب للتلاشى، بل أتصور ان الاهتمام الإعلامى، والذى ربما حمى هذه الأسرة وبقية الأسر الشيعية إلى حين، سيوصف بأنه من مظاهر الخطر العلمانى وتكاتف الكفار ضد الإسلام، وسيستعمل لزيادة الشحن. ولا أرى أى سبب يمنع امتداد مثل هذا الحدث إلى قرى أخرى بل أتصور أن الأجواء مهيأة لذلك.
الفيديوهات تشهد بعدم فاعلية الأمن وعدم وجود إرادة حقيقية مبكرة لمنع ما حدث. لكن أيضا السيدات يقلن أن بعد القتل البوليس هو الذى جعلهم يصعدون إلى الطابق الأعلى وحماهم. النقيب المسئول فى مركز أبو النمرس يؤكد لى أن رجال المباحث موجودون داخل البلد والوضع تحت السيطرة.
أرى الطريق لفض الاحتقان هو بنزول رجال دين ورأى مختلفين إلى البلد، والحديث مع أهلها، وأرى أن يجازى كل من يخاطب بخطاب الكراهية، وأرى أن الطريق لرأب الصدع ومحاولة تصفية نفوس كل الأطراف هى أن يقتنع شباب البلد بأن عليهم إزالة الضرر من على هذه الأسرة وتنظيف بيتهم وإصلاحه بأيديهم.
هذه القرية «المنسية»، المتروك أهلها مع نفسهم، تحت ضغوط وجهل تسمح بحشدهم لقتل ضيوفهم وترويع جيرانهم، والتى - حتى بعد ما حدث - لا أجد فى ناسها أو شرطتها ما يدل على إحساسهم بأزمة ناهيك كارثة - هذه القرية تبعد أربعين دقيقة عن مجلس الشعب ومجلس الوزراء ودواوين الحكومة. ما هو الحال فى بلاد أبعد؟ وما هى الانفجارات التى ستفاجئنا؟ ومتى سنبدأ فى إنقاذ أنفسنا فنؤسس لذلك التغيير الضرورى الذى قمنا من أجله منذ ٢٩ شهرا؟