إذا كنا فى مصر نريد المواجهة الجادة لفكر التطرف ونبحث عن دحض مقولاته التى تستدعى الدين زيفا لتبرير الإرهاب والعنف، فإن واجب مؤسسات وأجهزة الدولة والمجتمع والمصالح الخاصة هو الاعتراف بأن المواجهة الأمنية بمفردها لن تنجح، والإقرار بأن أزمة السلم الأهلى ووضعية الاستقطاب المجتمعى والسياسى المتصاعدة يحدان كثيرا من إمكانيات مواجهة التطرف بنجاح، والتسليم بأن جهد المؤسسات الدينية «الرسمية» فى تفنيد فكر التطرف يشكل مكونا فى منظومة مجتمعية أشمل يتعين أن تبث قيم الحرية والتسامح والإنسانية وتروج لها بين الناس، والاقتناع بأن كل هذا يتعارض مع فرض الرأى الواحد والصوت الواحد ومع إماتة السياسة كنشاط تعددى«سلمى» ديمقراطى يبتغى الصالح العام. فالرأى الواحد والصوت الواحد حتى يأتيان من الحكم/ السلطة يستدعيان فى المواجهة رأيا واحدا راديكاليا وصوتا واحدا متطرفا.
وبعد ذلك، تأتى توصيات بتطبيق برامج وسياسات محددة، لمؤسسات الدولة والمجتمع والمصالح الخاصة أن تسهم بها:
١ــ تطوير مناهج للتعليم المدرسى والجامعى تشجع قيم الحرية والتسامح والسلمية والتعددية وقبول الآخر وحب الحياة، وتربط بينها وبين الفهم الإنسانى للدين وبينها وبين رفض الانسياق وراء فكر التطرف، وتحفز على التفكير الحر والتعبير الحر عن الرأى بعيدا عن القوالب المتوارثة والجاهزة والنمطية.
٢ــ توظيف مساحات النقاش العام فى الإعلام وفى قطاعات المجتمع الوسيطة كالمنظمات المدنية والجمعيات الأهلية والمنتديات الفكرية والثقافية والروابط المهنية لمناهضة فكر التطرف والاستدعاء الزائف للدين من قبل الحركات والتنظيمات والجماعات المتطرفة، ولتفنيد المقولات الأساسية للمتطرفين التى تلغى حرية الفرد فى الاختيار وتكفر المختلفين وتبث كراهية الحياة وتبرر الإرهاب والعنف وحمل السلاح وتجرد الناس من الأمل فى غد أفضل عبر إدخالهم فى دوائر صراعات وجودية مختلقة بين الخير والشر «بين الحلال والحرام» بين النور والظلام، وهم الشر والحرام والظلام.
٣ــ تجفيف المنابع المجتمعية لفكر التطرف ولحركات وتنظيمات وجماعات التطرف، وهى ترتبط عادة ــ وكما تدلل دراسات علمية أجريت فى الكثير من مجتمعات الغرب الأمريكى والأوروبى والشرق الآسيوى وفى القليل من المجتمعات العربية ــ بالبيئات المهمشة والفقيرة والمغتربة شعوريا عن المجتمع وعن أغلبيته ــ كبعض المهاجرين من الدول العربية والإسلامية إلى الولايات المتحدة وأوروبا، والأقليات العرقية والدينية فى بعض الدول الآسيوية والفئات المهمشة اقتصاديا واجتماعيا فى مصر ودول عربية أخرى. بالقطع ليس الانزلاق إلى فكر التطرف ودوائره اللعينة بقاصر فى مصر أو غيرها على المهمشين والفقراء، وهناك نماذج عديدة يتم تداولها إعلاميا تدحض مثل هذا الاختزال. إلا أن المؤكد، بالنظر إلى مصر وغيرها من الدول والمجتمعات، هو أن البيئة الحاضنة للتطرف وثيقة الارتباط بالتهميش والفقر والاغتراب وأن تجفيف المنابع هنا يقتضى شراكة مؤسسات وأجهزة الدولة والقطاع الخاص فى تنشيط العمل التنموى وتطبيق خطط عاجلة للدمج المجتمعى للمهمشين وللفقراء.
٤ ــ تجفيف المنابع السياسية لفكر التطرف بصون حقوق وحريات المواطن، وحماية حكم القانون، وتداول السلطة، وتمكين المواطن من المشاركة السلمية فرديا وجماعيا فى إدارة الشأن العام عبر آليات الديمقراطية المختلفة شريطة الامتناع عن الخروج على القانون ونبذ الإرهاب والعنف والابتعاد عن الترويج للأفكار المناهضة للحرية وللديمقراطية، وصناعة مجال عام يتسم بالتعددية والشفافية ويقدر المعلومة الحقيقية والتعبير الحر عن الرأى والفكر.
هذا إذا أردنا المواجهة الجادة لفكر التطرف.
غدا.. هامش جديد للديمقراطية فى مصر