من المرجح أن تكون لإعادة انتخاب ترامب، رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، انعكاسات على الشرق الأوسط، بما فى ذلك إسرائيل. سيتناول المقال تأثير إعادة انتخابه على إسرائيل، بخاصة. لقد دعم بنيامين نتنياهو ترشح ترامب للرئاسة فى مواجهة بايدن، وتحرق شوقًا إلى عودته، وصلَّى من أجلها، وراهن عليها، وكان أول المهنئين له بالفوز، وأرسل رسله، واحدًا تلو الآخر، عقب إعلان نتائج الانتخابات على الفور، لجس النبض، وتنسيق المواقف إزاء قضايا عديدة لم يشأ أن يبُت فيها، متعمدًا، انتظارًا لمجيئه، وهاتفه ثلاث مرات خلال فترة وجيزة.
كلها شواهد تؤكد أن الرجل يبنى حساباته على ترامب ويعول عليه. ورغم الإهانات، التى واجهها ترامب لنتنياهو، فى مناسبات عديدة، بعد السابع من أكتوبر2023م، من قبيل: «يجب إقالة نتنياهو» (12 أكتوبر 2023م)، و«لقد خاب أملى فيه (فى إشارة إلى نجاح حماس فى مباغتة إسرائيل فى السابع من أكتوبر 2023م) لقد حدث ما حدث خلال نوبة حراسته، النقد الموجه إليه له ما يبرَّره» (ديسمبر 2023م)، و«كانت لى تجربة سيئة مع بيبى» (أبريل 2024م) فإن نتنياهو يفضل أن يبتلع كل هذه الإهانات، بحسب ميراف بتيتى، لأنه يتوهم فيه أنه سينقذ إسرائيل مما هى فيه من ورطة ومأزق استراتيجى، وحرب بلا نهاية، وانقسام مجتمعى حقيقى؛ ولأنه، وهذا هو المهم، بحسب تصور نتنياهو، سيتماهى مع أجندته اليمينية المتطرفة، والتوسعية، هو وائتلافه الحكومى: «يبنى (نتنياهو) حساباته على أننا، أيضًا، مثل وزراء الليكود، سنقع فى غواية الاعتقاد بأن كورش العصر(أى ترامب، على غرار الإمبراطور الفارسى، كورش، الذى قيل إنه أعاد اليهود، فى سالف العصر، ما يُزعم بأنه «السبى» البابلى إلى القدس، بحسب الرواية التوراتية)، الذى أطل ممتطيًا امرأة سوداء البشرة (منتصرًا على حساب كاميلا هاريس)، سيحقق لنا الخلاص».
ومن المتوقع، بحسب ناحوم برنياع، أيضًا، «أن ينحى نتنياهو وترامب العلاقات العكرة التى تطورت بينهما فى نهاية الفترة الرئاسية الأولى فى 2021، جانبًا، وأن يحاول نتنياهو إرضاءه وعدم الدخول معه فى مواجهة؛ وأن يستغل نصف العام، الذى سيكرسه ترامب لتشكيل الحكومة ودراسة القضايا المختلفة، من أجل تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وكسب ثقة رجال الرئيس الجديد».
الماضى، غير البعيد، حاضر فى ذهن نتنياهو، الذى حقق استفادة قصوى من وجود ترامب خلال فترة رئاسته السابقة (2017ـ 2021م)، تمثلت فى نقله السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعترافه بضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية المحتلة، وممارسته ضغطًا على دول عربية من أجل تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، واعترافه بشرعية الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة الغربية المحتلة، ووضعه تصورًا لحل النزاع مع الفلسطينيين، اصطُلح على تسميته «صفقة القرن»، يحشر الفلسطينيين فى «كانتونات» منعزلة عن بعضها البعض، تحت مسمَّى «دولة فلسطينية».
• • •
من أهم القضايا التى يعول فيها نتنياهو على ترامب قضية الحرب الدائرة على جبهات عديدة، فى غزة، ولبنان، وإيران وفى سائر الجبهات الأخرى. إذ ربط نتنياهو مستقبله السياسى باستمرار هذه الحرب، فضلًا عن أن وزراء كثيرين فى حكومته لا يريدون إنهاءها، لكن ترامب، رجل الأعمال، الذى ينظر إلى الأمور من زاوية الربح والخسارة، يكره الحروب المكلفة، وقد طالب إسرائيل بإنهاء الحرب فى غزة وفى لبنان قبل تسلمه المنصب فى العشرين من يناير المقبل. وبحسب، مايك إيفانس، أحد كبار مستشاريه من الإنجليكانيين فإنه يرغب فى أن تكمل إسرائيل العمل من الآن حتى العشرين من يناير، وأن تجهز على وكيلَى إيران فى الشمال وفى غزة، وأن تنهى الحرب. ولأن نتنياهو عاجز عن تحقيق ما سمَّاه بـ«النصر المطلق» حتى الآن، وغير راغب، أصلًا، فى إنهاء الحرب، فإنه يمكن الافتراض بأن ترامب سيحاول فرض حل عليه فى مسألة الحرب، إذا لم ينهها بنفسه، قبل مجيئه.
لن يستطيع نتنياهو مخالفة إرادة ترامب، مثلما كان يفعل مع بايدن، وسيضطر إلى مواجهة شركائه المتطرفين فى الائتلاف الحكومى، ممن يريدون استمرار الحرب إلى ما لا نهاية. ثم إن الولايات المتحدة، فى المرحلة الأولى من ولاية ترامب، ستولى اهتمامًا أكبر بقضايا الداخل الأمريكى، ولن تسمح بأن يجرها أحد إلى حرب أو أن يورطها فى شئون دول أخرى؛ وطبقًا لتصريحات ترامب، نفسه، خلال الحملة الانتخابية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستركز على قضاياها الداخلية ولن تهدر أموالها فى مساعدة الآخرين.
فيما يتعلق بالدعم الأمريكى العسكرى لإسرائيل، يرى ناحوم برنياع، أن ترامب لن يقدم دعمًا عسكريًا سخيًا لإسرائيل، كالذى قدمه بايدن: «ثمة شك فى أن نرى الطائرات الأمريكية مرة أخرى فى السماء، والمنظومات المضادة للصواريخ على الأرض وحاملات الطائرات فى البحر، من أجل الدفاع عنا. ثمة شك فى أنه سيصادق، خلال فترة ولايته، على مبالغ المساعدات التى صادق عليها بايدن، وثمة شك فى أن تحصل إسرائيل على تحالف قوى، وثابت، وملتزم، وصارم فى مواجهة (محور الشر)، فى ظل حكم ترامب». لكن المسألة ليست كما يتصورها برنياع، لكونها تخضع لاعتبارات ومتغيرات عديدة. ولا يُتصوَّر، أبدًا، أن يتخلى ترامب عن حليف استراتيجى، مثل إسرائيل، فى وقت أزمة. سوف تكون له طريقته الخاصة فى معالجة الأمور، لكنه، لن يتخلى أبدًا عن دعم إسرائيل، بل القتال، حتى، إلى جانبها، إذا اقتضى الأمر.
• • •
من القضايا الأخرى التى يعول فيها نتنياهو على ترمب، كيفية التعامل مع البرنامج النووى الإيرانى. يحلم نتنياهو، ومعه السواد الأعظم من الإسرائيليين، بالاستفادة من نزق وتهور ترامب فى توجيه ضربة للمشروع النووى الإيرانى، الذى لا طاقة لإسرائيل، وحدها، بتوجيهها إليه من دون مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية. قد تكون لديها القدرة على ضرب منشآتها النفطية الإيرانية، وتكبيد الاقتصاد الإيرانى خسائر فادحة، لكن ضرب المنشآت النووية، المحصنة تحت الأرض، يحتاج، بالتأكيد، إلى مساعدة أمريكية. وأغلب الظن، أن ترامب لن يقع فى هذه الغواية الإسرائيلية، وربما يرجح عقد صفقة مع إيران على توريط بلاده فى حرب فى المنطقة أو يغلظ العقوبات الأمريكية ضدها على الأكثر.
يتطلع نتنياهو إلى مساعدة ترامب فى مسألة تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، خاصة، الذى سيفتح الباب أمام إسرائيل على مصراعيه للاندماج اندماجًا تامًا فى المنطقة، لتصبح جزءًا طبيعيًا منها، وسيكسبها شرعية لدى كثير من الدول الإسلامية وغير الإسلامية فى العالم، وسيحشر الفلسطينيين فى الزاوية، لكن هذه الأمنية ترتبط بمدى التنازلات التى سيقدمها ترامب للرياض، من ناحية، سواء فى مجال التسليح وإبرام معاهدة دفاع مشترك معها، أم فى مجال السماح لها بتطوير برنامج نووى سلمى، وبمدى استعداد نتنياهو، أيضًا، وائتلافه الحكومى، للموافقة على مخطط واضح لإقامة دولة فلسطينية.
ليس من الصعب أن نتصور ماذا سيكون رد فعل الوزراء المتطرفين بالحكومة الإسرائيلية على أى استعداد قد يبديه نتنياهو فى هذا الاتجاه من أجل إرضاء ترامب والرياض. النتيجة معروفة، سلفًا، فضلًا عن أن نتنياهو، نفسه، وجُل وزراء حزبه (الليكود) أغلقوا الباب، تمامًا، أمام أى احتمال لإقامة دولة فلسطينية. ما يتوقعه نتنياهو وائتلافه المتطرف من ترامب ليس إيجاد حلٍ للقضية الفلسطينية، وإنما تصفيتها تصفية تامة، وقمع الحركة الوطنية الفلسطينية، عبْر ضم الأراضى الفلسطينية المحتلة فى الضفة الغربية إلى الدولة العبرية، وتكثيف الاستيطان بها، وليس الانسحاب من قطاع غزة، وإنما طرد الفلسطينيين من شماله، وإعادة استيطانه، وليس التصدى لأطماعهما فى لبنان، وإنما دعم احتلال إسرائيل جزءًا من جنوبه. ومن ثم، فإن مسألة التطبيع الرسمى مع السعودية ستظل معلَّقة.
• • •
أخيرًا، يتوقع نتنياهو من ترامب، على صعيد الشأن الداخلى الإسرائيلى، أن يغض الأخير الطرف عن المشروع الذى يتبناه، هو ووزير العدل، ياريف ليفين، لإحداث تغيير جذرى فى الهيئة القضائية الإسرائيلية، أو انقلاب قضائى، بحسب توصيف المعارضة الإسرائيلية، تُنتقص فيه صلاحيات محكمة العدل العليا الإسرائيلية، بخاصة، بحيث يكون للكنيست ـ البرلمان الذى يتمتع فيه الائتلاف اليمينى، الحاكم، بأغلبية مريحة تمكنه من تمرير القوانين التى يرغب فى تمريرها - القول الفصل فى كل ما يتعلق بسن القوانين، حتى وإن خالفت القوانين الأساس - قوانين فى حكم الدستور، حيث لم تضع إسرائيل دستورًا حتى الآن- وألا يفرض عليه عزلة بسبب هذا التغيير المرجو فى عمل الهيئة القضائية، مثلما فعل بايدن.
أغلب الظن، أن ترامب سيتفهم هذا التغيير، ولن يقف عقبة فى طريق إقراره، لأن الرجل، نفسه، سيخوض صراعًا مماثلًا، أيضًا، فى الداخل الأمريكى، كما أعلن، خلال حملته الانتخابية، ضد «الدولة الأمريكية العميقة»، بما فى ذلك ضد وزارة العدل، وسلطات التحقيق وفرض وتطبيق القانون، والمحاكم، وضد عناصر مؤثرة فى المؤسسة الأمنية والعسكرية، أيضًا.
وختامًا، لن يتخلى ترامب عن الالتزام الأمريكى، المعلن، بدعم إسرائيل والوقوف إلى جانبها، شأنه شأن كل الرؤساء الأمريكيين السابقين. ربما تختلف الوسائل والتفاصيل، لكن المبدأ يظل قائمًا ما ظلت المصالح المشتركة قائمة.