كان كل شىء على حاله فى شارع الحمرا مساء السبت الماضى، أكثر المحال التجارية أغلقت أبوابها ولم يبق مفتوحا إلا محل واحد أو اثنان على الأكثر، الباعة السوريون يلملمون بضاعتهم المفروشة على الأرض ويغرون آخر زبائنهم بقطع القراصيا المحشوة بعين الجمل فيتذوق المارة الثمرة اللذيذة ويرجئون قرار الشراء، مجموعات من الشباب تسير على جانبى الشارع تثرثر وتضحك وتحكم الكوفيات الصوف حول أعناقها اتقاء لبرد كانون الثانى، سيارات تنتهز جنوح الليل فتقطع الشارع بسرعة كبيرة ومنها تنبعث أصوات موسيقى عالية، هكذا هو الشارع وهكذا هى بيروت يضجان بالحياة ويصادقان زائريهما بسلاسة مدهشة.
فى الزاوية يوجد مقهى «كوستا» مقصد اللبنانيين فى منتصف العمر أما الشباب فإن لهم ذوقا آخر، هم يفضلون العبور إلى «الميلة» الثانية من الرصيف حيث يوجد مقهى ستاربكس فإن أرادوا تناول وجبة العشاء فالأرجح أنهم سيقصدون مطعم «تاء مربوطة» فهذا المطعم منذ ظهر «أكل الجو» من كل المطاعم المجاورة وأصبح مطعما شبابيا بامتياز. قبل عدة أشهر سألتنى صديقة تونسية ونحن معا نحضر ندوة فى بيروت عما إذا كنت أعرف أين يقع «مقهى الشيوعيين» وأجبتها بالنفى، ثم اكتشفت لاحقا أنها تقصد مطعم «تاء مربوطة».
خيارات المطاعم والمقاهى فى نهاية شارع الحمرا قرب السينما خيارات محدودة، أما إن أنت أدرت ظهرك للسينما ومضيت فى الاتجاه المعاكس فسوف تنفتح أمامك خيارات كثيرة من أول محل الشاورما التيك أواى وحتى مطاعم الكباب بمقاعدها الوثيرة، وسواء كنت شابا أم كهلا فستجد فى تلك الخيارات ما يناسبك.
•••
غريب جدا هذا الشارع الذى يملك قوة تشبه قوة المغناطيس فى جذب القلوب والمشاعر، لديه قدرة على التجديد غير طبيعية فأنا أراهنك أن تجد نفس المحال والمقاهى والباعة ما بين زيارة وأخرى لبيروت، فى بعض الأحيان ستأخذك قدماك إلى مكتبة «أنطوان» لكنك ستجد لافتة معلقة عليها تفيد أن المكتبة انتقلت إلى البناية الثانية، وفِى أحيان أخرى ستبحث عن محل «ماجدة» للمشغولات اليدوية فيخبرك جيرانها أنها «سكَّرت» المحل وذهبت إلى ابنتها فى الإمارات. جزء من حيوية شارع الحمرا مصدره حيوية لبنان نفسه ذلك البلد الذى لا يُحبط ولا يُكسر ولا يمل، عدِد صراعاته وحروبه وأزماته ما شاء لك أن تعد لكن أيا منها أبدا لم يخف وجه لبنان. فى هذه الشرفة فى الطابق الأول من البناية القديمة توجد آنية صغيرة من الزهور بكل درجات اللون البنفسجى ومشتقاته، ترفع إليها رأسك عن بعد وأنت تشق طريقك صباحا بصعوبة فى شارع الحمرا فتسير معك عدة أمتار تسليك وتذهب وحشتك.
فى هذا الشارع ستجد التنوع نفسه الذى يميز لبنان ويصنع منه نموذجا فريدا فى عالمنا العربى، فى هذا المحل توجد شقيقتان أرمنيتان مسنتان تتابعان كل خطواتك من لحظة أن تدخل المحل وحتى تقف على الصندوق لتدفع، سيصيبك الغيظ حين تتبادلان الحديث فيما بينهما باللغة الأرمنية كى لا تفهم حوارهما حول السعر لكن سيعجبك دأبهما وهما تتناوبان الكرسى الخشبى الوحيد بالمحل فى نوباتشيات لا تتوقف أبدا. فى محل آخر توجد أسرة تنتمى سياسيا لتيار المستقبل حين كان له صيت وصدى فى لبنان ولا أنسى قط حالة الحزن الشديد التى ألمت بصاحبة المحل بعد اغتيال رفيق الحريرى، فلقد خلا وجهها من المساحيق وعلقت صور الحريرى بوفرة على الجدران. فى محل ثالث سيلفت نظرك فور دخولك اتشاح عاملاته بالسواد ولن تحتاج إلا لثوانٍ قليلة لتعرف أن اليوم يصادف ذكرى عاشوراء. كل طوائف لبنان فى هذا الشارع.
•••
عندما يقدر للمهرجان التسويقي ــ المتنقل بين مدن لبنان وضواحيها ــ أن يقام فى شارع الحمرا ويشاء حظك أن تمر بالشارع فى هذا التوقيت فسوف تشاهد أمرا عجبا. حمام سباحة مطاطى يوضع أمام محل «ملك البطاطا» وفِى ثوان لا ترى فى مياهه إلا رؤوسا صغيرة لأطفال من الخامسة فما فوق يلهون ويرشون بعضهم البعض بالمياه، فرق موسيقية تقطع الشارع الذى يُمنع فيه مرور السيارات هذا اليوم يقرع أصحابها الطبول ويرتدون القبعات الطويلة الملونة، موائد متراصة يُعرض فيها للبيع كل شيء بالمعنى الحرفى للكلمة، حتى إذا انفض السامر وتفرق الجمع أزيلت كل مظاهر الاحتفال قبل أن تشرق شمس اليوم التالى وعادت السيارات بضجيجها وموسيقاها و«عچقتها».
•••
منذ أن نزلت لأول مرة فى أوتيل «مشرق» عام ١٩٧٤ وأنا وقعت فى حب هذا الشارع بأشجاره وناسه وحكاياته، لا أكاد أصدق أنه رغم حركة التجديد المتصلة فى الشارع فإن أوتيل «مشرق« مازال موجودا، هو بالمناسبة يبعد عن مقهى «كوستا» بشارع واحد. عندما تفقدت هذا الأوتيل لأول مرة بعد مرور سنين طويلة على إقامتى فيه انتابتنى فرحة طفولية «هذه الكعبة كنّا طائفيها والمصلين صباحا ومساء، كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها، كيف بالله رجعنا غرباء»، هل قلت غرباء؟ أبدا لا غربة فى الحمرا ولا وحشة فى بيروت.
•••
كان كل شىء على حاله فى شارع الحمرا مساء السبت الماضى عندما تمنطق أحدهم بزِنار ناسف وولى وجهه صوب مقهى «كوستا«، انخلع قلبى وأنا أتابع الأنباء فهنا أمُر وهنا أتسكع وهنا أرتشف كوب الكابتشينو ومعه بعض الكوكيز. لماذا هذا الشارع وهذا المقهى وهذا البلد وهؤلاء الناس؟ سؤال لماذا لا قيمة له بالمرة فلن تستطيع الإجابة عليه بالقول «لأن كذا وكذا»، أصلا لا يوجد منطق، فأى منطق فى أن تحصد أرواحا لا تعرف أصحابها ولا يعرفونك؟ هناك من يؤذيهم جمال بيروت هذا أكيد قالها نزار قبانى وغنتها ماجدة الرومى وحسبه من تفسير، لكن الله سلَّم فنجا الشارع والمقهى وانتصرت الحياة. حفظ الله لبنان وحفظ أهلها من كل سوء.