صناعة الفشل الثوري - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 4 فبراير 2025 10:01 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

صناعة الفشل الثوري

نشر فى : الإثنين 27 يناير 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : الإثنين 27 يناير 2025 - 6:45 م

صَغار فى الذهاب وفى الإياب ..أهذا كل شأنك يا عرابى؟! هكذا وصف أمير الشعراء أحمد شوقى الزعيم أحمد عرابى لدى عودته من المنفى بعد عشرين عاما، وكان ذلك طعنا صارخا فى الرجل وفى ثورته التى وصفت بـ«الهوجة»، والتى اتهمت لعقود طوال بأنها السبب المباشر فى وقوع مصر فريسة للاحتلال البريطانى. تمر السنوات ويشقى بذكر الثورة العرابية كل من شارك فيها وأيدها، ويشقى معها ذكر الخديوى توفيق الذى تردد أن أسرته العلوية ذاتها لم تكن فخورة بصنيعه المشين فى التعامل مع حركة الضباط حينها، ثم مع الاعتداء البريطانى على الإسكندرية، واستقباله الأميرال «بوشامب سيمور» قائد الأسطول البريطانى فى قصر الرمل، جاعلا نفسه وسلطته الحكومية رهن تصرف الإنجليز، حتى قبل أن يحتلوا الإسكندرية. فأثناء القتال أرسل الإنجليز ثلة من جنودهم ذوى الحلل الزرقاء لحماية الخديوى أثناء انتقاله من قصر الرمل إلى قصر رأس التين عبر شوارع الإسكندرية المشتعلة. ثم أرسل الخديوى إلى أحمد عرابى فى كفر الدوار يأمره بالكف عن الاستعدادات الحربية، ويحمّله تبعة ضرب الإسكندرية، ويأمره بالمثول لديه فى قصر رأس التين؛ ليتلقى منه تعليماته.

ويبدو أن الثورة العرابية هُزمت فى الضمير الشعبى بسبب الخلافات الداخلية التى نشبت بين قادتها. ففى البداية، اتهم العرابيون رئيس مجلس النواب محمد باشا سلطان بالخيانة وممالأة الإنجليز، بزعم أنه حث المصريين على الانفضاض عن عرابى. كما سجلت نور الهدى محمد سلطان (الشهيرة باسم هدى شعراوى)، ردود فعل من معاصرين لها فى مذكراتها، واتهمت العرابيين بالسعى إلى السلطة والزعامة، مما أدى إلى هزيمتهم. ويُعتقد أن المؤرخ عبد الرحمن الرافعى قد قسم «حراك الثورة» إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل النجاح، والمرحلة الثانية منذ إقالة شريف باشا، مشيرًا إلى أن قادة الثورة كانوا يطالبون بالمناصب.

وعلى الرغم من اختلاف الشهادات حول عرابى وجيله، يُعتقد أن القادة اختلفوا وانقسموا، مما سمح للخديوى بالانقضاض عليهم وعلى حراكهم، وفتح الباب للاحتلال البريطاني. على أن إنصاف الثورة العرابية فى كتب التاريخ فى العهد الجمهورى جاء كرد فعل عنيف لدهر من التشكيك والتخوين، ولم يسلم ذلك الإنصاف من المبالغة فى التمجيد والحط من شأن كل المختلفين مع تلك الثورة والمشككين فى ملائكية أهدافها. الانقسام والتخوين إذن كانا أهم أسباب انهزام الثورة العرابية، ولا أقول فشلها، ذلك أن نجاح الثورات وفشلها ليس قرينا بما تحققه من نتائج مباشرة فى نظام الحكم وعلى أرض الواقع.

• • •

تظل ثورة يناير 2011 من الثورات النادرة التى تحرك بها الشعب بشكل عفوى، وعلى غير انحياز متأخر لحركة منظمة وطنية مسلحة.. فقد اندلعت بوازع من غضب مكبوت، وانطلقت من مقدمات حتمية الهدم دون اكتراث بأدوات إعادة البناء وتكاليفها.. وافتقرت إلى القيادة وإلى الأهداف المنضبطة التى يمكن أن يتم التفاوض بشأنها، بل إن ما اصطنعته من قيادات وهمية غزت الشاشات التلفزيونية آنذاك، أغلقت الباب أمام كل صور التفاوض مع القلة الإصلاحية الباقية من النظام المنقضى، وضيّقت مساحات الاتفاق التى كان بمقدورها وحدها أن تؤسس لدولة مدنية جامعة، وذلك بصناعة قاموس مكتمل لاتهامات معلّبة بالفساد والخيانة والإلحاد! إلى غير ذلك من أوصاف كان أشهرها على الإطلاق وصف «فلول النظام»، ذلك الذى وصم به غالبية رجال الدولة الذين عليهم تؤسس الأنظمة.

ولا أنسى يوما دعيت فيه إلى لقاء بوزير الشباب فى حكومة الدكتور عصام شرف، وكان الوزير رجلا مثقفا منفتحا مخلصا، غير أنه استقبل على طاولته عددا من الشباب الذين وصفوا بـ«شباب الثورة»! وانتهى الحوار معهم إلى ضرورة فتح الباب ــ على مصراعيه ــ لأصحاب رسالة الدولة الأصولية باعتبارهم شركاء الوطن والعمل الثورى! وعدم الاهتمام بملفات الاقتصاد، تلك التى رآها هذا النفر من الشباب فزاّعة نظام مبارك، وعصا موسى التى استغلها لإلهاء الشعب عن حقوقه السياسية! أما أنا فغادرت الاجتماع مبكرا، معترضا ومسجّلا توجّسى بأن هذا الاقتصاد الذى تهملونه على مائدة الحوار، سيكون أهم أسباب فشل الثورة وانقضاض الفقراء عليها، وأن فتح الباب للمتطرفين دينيا بزعم أنهم أحرار فى طرح رسالتهم (الإقصائية بطبيعتها) لن يقيم دولة مدنية أبدا، ولن يحقق أدنى تكافؤ للفرص مع القوى الليبرالية المتشرذمة وغير المنظمة وغير المموّلة..

لا أبرئ نفسى بسوق هذه  التفاصيل، إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربى.. ولا أنتحل هيئة العالم ببواطن الأمور، الناظر إلى المستقبل بنور اليقين.. فقد خضت هذه التجربة شابا حالما مندفعا، لا أزن الأمور كما أفعل الآن.. لكننى أتذكر مع القرّاء كيف كانت بعض البدايات، وكيف لاحت أسباب الهزيمة مبكرا، وخلقت الثورة رموزها المضادة لأهدافها الهادمة لقواعدها. وكأى من ثورة غيرت مجرى التاريخ، فلا أمل أن تحقق ثورة يناير نجاحا فوريا، بل إن معايير نجاح الثورات ترتكز على مقدار ما تصنعه من تغيير حقيقى فى ثقافة وتفكير وسلوكيات المجتمع، وذلك النوع من التغيير لا يحدث إلا متدرجا وبعد جدلية «هيجلية» عميقة بين فكرة وفكرة مضادة، وثالثة تختمر على أثر ذلك التضاد..

• • •

الحكم على الثورات إذن لا يكون بإصدار شهادة نجاح أو فشل، فاختزال الحراك الثورى فى أثر واحد مباشر هو عمل سطحى، والحكم على الثورات بما صنعته من نتائج على الأرض يضيع فى لعبة السببية، التى تختلف بمرور الزمن وبزاوية الرؤية.. هل وقع الاحتلال بسبب الثورة العرابية؟ وهل كان بناء قاعدة ليبرالية واعية نتيجة مباشرة لمقاومة الاحتلال؟ فأى أثر إذن صنعته تلك الثورة؟! الحكم على الثورات بميزان الخير والشر لن يؤدى بنا إلا إلى هوة من الخلاف الذى لن يحسمه مخلوق على الأرض.

لكن التعامل مع الثورات باعتبارها تجربة بشرية شديدة الثراء، هو ما يجب أن نعيه ونؤسس له. كانت ثورة يناير شديدة الثراء، بتغييراتها ودروسها وآمالها وآلامها، وإلقائها الضوء على إمكانات وحدود الشعب المصرى، وعلى أهمية الوعى والتعليم، وعلى ضرورة تكوين كتلة حرجة من قيادات الفكر قبل الإقدام على أى نوع من التغيير، وعلى أهمية التغيير التدريجى الإصلاحى كبديل أقل تكلفة ودموية من كل التغييرات الثورية.. الثورات رهن بسياقها الزمنى والمكانى، ومن الصعب أن تحكم عليها مفرغا إيّاها من السياقين، تقدير الثورات مرهون بحجم التأثير الذى تصنعه فى اتجاه تحقيق أهدافها، وإن طال الأمد وكثرت العثرات.. ومن هذا المنطلق، فلابد من التواضع أمام تقييم تلك التجارب البشرية الكبرى، وعدم انتزاع صفة الرشد من الشعوب بكلمة واحدة تحكم بالفشل على تلك الثورات، وعدم الإفراط أيضا فى إنكار المساوئ والهنّات، إلى الحد الذى يصبح معه الشعب مستعصيا على التعلم من الأخطاء، لاهيا فى أناشيد المراهقة الثورية.

 

كاتب ومحلل اقتصادى

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات