نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا بتاريخ 24 مارس 2022 للكاتبة سوسن الأبطح، تناولت فيه موقف الغرب من الثقافة الروسية فى ظل حرب بوتين ضد أوكرانيا.. نعرض من المقال ما يلى.
حين تصبح «الثقافة هى الجبهة الثالثة فى الحرب الأوكرانية»، بعد الجبهتين العسكرية والاقتصادية، كما قررت وزيرة الثقافة البريطانية نادين دوريس، فثمة ما يدعو لتوقع الأسوأ، والشعور بأن كل الحدود قد استبيحت.
الأمر لا يتوقف على طرد فاليرى غيرغييف، قائد أساسى فى أوركسترا ميونيخ الفيلهارمونية، أو إلغاء حفلات عازف بيانو عبقرى مثل ألكسندر مالوفيف فى مونتريال، وهو لا يتعدى العشرين عاما، وله عائلة فى أوكرانيا، أعلن جهرا أنه ضد بوتين. وصل العداء إلى مهاجمة من يتحدث الروسية فى الشارع، وإلى معاقبة مطعم تشتم منه رائحة روسيا، ونبذ طلاب أقسام الآداب الروسية فى الجامعات الأوروبية، والتنمر عليهم فى وسائل التواصل. وهؤلاء يأتون من مختلف البلدان، ولا غاية لهم سوى المعرفة. لا داعى للحديث عن مقاطعة القطط ذات الأصل الروسى، ومهاجمة المراكز الثقافية، فهذا كله ضرب من الجنون، يحتاج إلى وقفة شجاعة من المثقفين الأوروبيين العقلاء الذين يتململون، ولا يزالون يتحدثون بصوت خافت، خشية التيار المتطرف الهادر، تغذيه آلة إعلامية تحمس على الكراهية، أكثر مما تساعد على إدراك متعقل لتبعات ما يتخذ من إجراءات.
كنا نوجه اللوم لإعلامنا، بدا أن ثمة ما هو أسوأ بأشواط. فتح جبهة حرب ثقافية، لا يعنى فقط مقاطعة موسيقيين وكتب وأفلام وإغلاق أبواب المهرجانات، ففى الضمير البشرى أن الثقافة، لغة، ومزاج، ومأكولات، وأزياء، ونمط عيش، مما يبرر ضمنًا لأى أوروبى أن يفعل ما يشاء لروسى مقيم، وهؤلاء منتشرون فى كل العالم، والفنانون بينهم كثر.
من هنا خطورة الدعوة البريطانية، التى لا تبتعد عنها فرنسا، وإن حددت وزيرة ثقافتها روزلين باشلو أن بلدها ليس فى حرب مباشرة مع روسيا، وإنما المقاطعة هى «للمؤسسات الروسية الرسمية، والفنانين الذين اتخذوا موقفا واضحا من نظام بوتين». لكن الأمر على الأرض، فى مكان آخر. فإن يطلب من كل فنان أو كاتب أن يعلن رأيه فى حرب تشارك فيها بلاده كشرط لقبوله، هى سابقة خطيرة، وإهانة قصوى، بصرف النظر عن جنسيته ولونه. الفنانون محاربون فى مجالاتهم، وآراؤهم لا أهمية لها، إلا حين يقررون توظيف مواهبهم الفنية للدفاع عن شخص أو نظام والاستبسال فى حمايته، ويحولون نتاجاتهم إلى سيوف ورماح.
ما عدا ذلك، إذلال عازف، أو شاعر، أو حتى مغنٍ مهيض، ليس له فيدرالية عالمية تدافع عنه، أو تجمع يحميه، هو استسهال فى الانتقام، من أشخاص لم يستشرهم الرئيس الروسى يوما، وحتما، فإن إهانتهم لن ترد دبابات الجيش الروسى عن الزحف على كييف.
يُكتب لقلة غربية مثقفة شجاعتها، ويقظة ضميرها، كما فعلت محررة الشئون الثقافية جان دالى، فى «فاينانشيال تايمز» البريطانية، مشبهة استبعاد الأشخاص عن الوظائف، والتعرض لسبل عيشهم، وإرغامهم على الإعلان عن ولاءاتهم، بما حصل أيام الثورة الثقافية فى الصين، وبإجراءات السيناتور جوزيف مكارثى التعسفية فى أمريكا، ضد من اشتبه بشيوعيتهم فى خمسينيات القرن الماضى، لتتبين بعد ذلك براءتهم.
قد تكون ألمانيا سياسيا، من أكثر الدول حساسية من موجة العداء الثقافى التى تفشت على أرضها، نظرا لتاريخها النازى، فمن بين ما يوجه لروسى من شتائم هناك «روسى خسيس» أو «خسارة أن هتلر لم ينجح فى الوصول إلى غاياته». لهذا يفهم تحذير وزيرة الثقافة الألمانية، كلاوديا روت، من «تطور نزعة مقاطعة الفن والثقافة الروسيين والاشتباه الشامل بحق جميع الفنانين الروس، وكل المواطنين روسيى الأصل». ووضعت روت، وهى من حزب الخضر، يدها على نقطة غاية فى الأهمية حين قالت «إن الثقافة الروسية المتنوعة والغنية تعد جزءا من الثقافة الأوروبية»، أى أن الانقسام داخلى وبينى بعد أن كان الكلام على «إسلاموفوبيا» أو «صينوفوبيا». بل أكثر من ذلك، كان العالم يرى دائما كييف وفنونها جزءا من الثقافة الروسية وتراثها. والهوية الأوكرانية غضة، كما أن الفرق بين المطبخين يكاد يكون هامشيا، إلا للخبير بأصوله. وتعلق طالبة ألمانية تدرس الآداب الروسية: «المشكلة أن الأوروبيين لا يعرفون الثقافة الروسية، ولا الأوكرانية».
تصدعت رءوسنا، لسنوات طويلة، ونحن نستمع لدعاة «الفن للفن»، واعتبار أنفسهم أكثر تحررا ممن سواهم. تلك المدرسة التى حمل لواءها الفرنسيان تيوفيل غوتيه والكونت دى ليسل منذ القرن التاسع عشر، ومضى المتحمسون لها يؤججون شعلتها، حتى اجتاحت كل المجالات. ما دُعى بـ«البرناسية» حيث اعتبر الفن غاية فى حد ذاته، وليس وسيلة للتعبير عن الذات، ولا عن المجتمع أو الفكر والأخلاق والسياسة، يدفن فى لحظة استشاطة. عابت هذه المدرسة على الاشتراكية واقعيتها وفجاجتها، وتسمية الأشياء بأسمائها، واهتمامها بقضايا الناس، لكن ما نراه اليوم، هو دعوة لكل مثقف للعودة إلى عرينه، واللجوء إلى جنسه وعرقه. وأول الغيب عودة نجمة الأوبرا العالمية الروسية، آنا نيتريبكو إلى بلادها لإقامة حفلات موسيقية فى مسرح «البولشوى» ومسارح أخرى، بعد أن اضطرت لإلغاء كل حفلاتها فى نيويورك وأوروبا، وهو ما يفرح قلوب الروس، بعودة فنانيهم إليهم، لكن الإنسانية تخسر، والإبداع أيضا.
الجبهة الثقافية، إن بقيت مفتوحة على مصراعيها للمبارزة، ستعيد كل فنان إلى عرينه، وقبيلته، وعرقه وتشعل فيه عصبيته، التى هى أبغض أعداء الفن. معركة فضاؤها إنسانى واسع وممتد، لا يقارن بالساحة العسكرية المحدودة، ويخشى إذا ما احتدمت ألا تبقى ولا تذر.