فى 9 يوليو عام 2016 نشرت لى جريدة الشروق الغراء مقالا بعنوان «حوكمة الأموال الخيرية» كان سببا فى أول لقاء لى بالأستاذ الإعلامى أسامة كمال الذى تجاسر لتغطية تلك القضية فى برنامجه على إحدى القنوات الفضائية، ولم يجد فى الصحافة ــ وفقا لإفادته حينها ــ من يتناولها من تلك الزاوية التى عنى بها المقال. كانت الكتابة فى مسألة التبرعات مشوبة بالمخاطر، وكانت الأقلام الجاهزة لشن المعارك ضد أى محاولة بريئة للاستفسار عن التكلفة المادية والنفسية لهذا الكم الضخم من الإعلانات المبتزة لمشاعر المواطنين فى غاية الشراسة. أنت تسأل عن كيفية إنفاق أموال التبرعات التى بلغت المليارات، فأنت إذن مشكك فى المؤسسة التى تجمعها لوجه الله، بل أنت عدو للتجربة الناجحة! هذا لعمرك فى القياس عجيب! نحن قوم نتفحص المتسولين البائسين فى إشارات المرور، وما إن وجدنا على أحدهم علامات الصحة قال قائلنا ما له لا يكسب رزقه من كد عمله، وامتنع فورا عن إعطائه ولو جنيها واحدا وهو مرتاح الضمير! أما أن تظهر مؤسسة كبيرة لجمع أموال طائلة من شعب غلبه الفقر، فلا يحق لأحد أن يسأل عن كيفية إدارة تلك الأموال، مع وجود الكثير من أمارات السفه فى إنفاقها وتبديدها فى غير مصارفها التى ارتضاها المتبرعون! كل ما كنا نطمع إليه عند إثارة قضية حوكمة الأموال الخيرية هو الشفافية والإفصاح عن نسبة ما يخصص للعلاج والإطعام من مصروفات المؤسسات الخيرية التى تخصصت فى العلاج أو فى توفير الطعام أو أى غرض إنسانى آخر، ما كانت التبرعات لتنهال عليها لولا أنه أساس نشاطها.
***
وقد جاء فى مستهل المقال المذكور «التوسع الكبير فى حجم النشاط التسويقى للجمعيات والمؤسسات الخيرية الخاصة فى السنوات الأخيرة ربما لا يصب فى مصلحة بقاء تلك الكيانات الخاضعة لذات النمط من الإدارة والحوكمة، خاصة فيما يتعلق بالأمور المالية. احتلال مساحات كبيرة من هواء الفضائيات وإعلانات الشوارع لصالح جمع التبرعات لتمويل أنشطة تلك الجمعيات والمؤسسات لفت الانتباه إلى حجم الأموال الضخمة التى تجمعها، كما أن عقود الإعلانات مع القنوات الفضائية وما تضمنته من حصول تلك القنوات على نسبة من التبرعات ــ وفقا لتحقيق مهم أجراه أحد المواقع الصحفية الشهيرة ــ أثارت الكثير من علامات الاستفهام فيما يتعلق بكيفية إحكام الرقابة المالية على تلك الكيانات الخيرية، والخطوات المتبعة من قبل مجالس أمنائها لاتخاذ قرار مالى مهم قد يتصل بمئات الملايين فى حملة إعلانية واحدة! كذلك هناك قرارات متعلقة برواتب العاملين فى تلك المؤسسات، والحرص على ألا يطغى بند «العاملين عليها» على سائر أوجه إنفاق التبرعات، على اعتبار أنها كثيرا ما تجمع تحت مظلة مصارف زكاة المال المختلفة بفتاوى رسمية تجيز لتلك الكيانات جمع الزكوات.«
وقد تحققت النبوءة إذ لم يكن من الممكن أن يستمر الصمت على مظاهر البذخ الإعلانى لتلك المؤسسات أكثر من ذلك. بالأمس القريب شن أحد كبار الكتاب حربا على مؤسسة علاجية رائدة فى نموذجها، وتحولت الحرب الكلامية إلى دعاوى قضائية، وبدت النتيجة سلبية للغاية ومهددة لبقاء هذا النوع من الكيانات الخيرية، وقد كانوا يُدعَون إلى الإفصاح والترشيد وهم سالمون. ما كان أغناهم عن اتخاذ موقف دفاعى فى مواجهة هجوم شرس بالبيانات والأدلة، التى ربما أثر إخفاؤها على قرارات المتبرعين، وعلى تخصيص الصدقات والزكوات بين الجهات «المتنافسة» عليها.
***
كان انطباعى عن بعض تلك المؤسسات قديما إذ لمست فى أحد مديريها زهوا بمهاراته التسويقية، وحرصا على الاستئثار بأكبر قدر من تدفقات أموال المتبرعين ولو على حساب كيانات أخرى تفتقر إلى أبسط مقومات الاستمرار وتقديم الخدمات العلاجية للمواطنين! لا سقف للأموال المطلوب جمعها، كل ما سيأتى سنجد له مصرفا، سنقيم المبانى الفاخرة ونصرف على رواتب تنافسية لأطبائنا، والباقى نستثمره فى البنوك، لن نقول أبدا لقد اكتفينا ولن نترك جنيها واحدا يذهب إلى المنافسين... هذا بالضبط لسان حاله!. أن تسقط تماما جانب الرحمة من معادلة إدارة هذا النوع من المؤسسات، على الرغم من الإفراط فى استدرار ذات الجانب فى إعلانات جمع التبرعات، والتفريط فى حقوق المرضى الذين تحولوا صاغرين إلى أدوات للعرض، لا يصمك فقط بالنفاق المستحق، بل يجعلك هدفا سهلا للعبة التجارة والأسواق بحروبها المستعرة، ويضعك على مأدبة المنافسين الأوفر حظا والأكثر مهارة فى ابتزاز المتبرعين! وقد جاء فى مقالى المشار إليه سابقا الدفع بأن استدامة تلك المؤسسات يتطلب مزيدا من الإنفاق على الرواتب التنافسية والدعاية والتسويق فى حسبة اقتصادية خالصة هو دفع مغلوط ينظر إلى المؤسسة جامعة التبرعات باعتبارها الكائن الوحيد فى المجتمع، ويغفل أثر المزاحمة الكبير الذى تمارسه ضغطا على الكيانات الخيرية الأصغر، ويغفل العائد الكلى على المجتمع. جنيه واحد فى هذا الكيان الضخم قد يذهب عشرة قروش منه فقط لصالح المريض وعلاجه أو لصالح الفقير وسد حاجته، بينما تسعون قرشا تنفق عن آخرها فى رواتب وأجور وديكور وإعلانات وحفلات.. فضلا عن استخدام بعض تلك المؤسسات للمرضى كأدوات للعرض لجذب الأموال بعيدا عن الحالة النفسية للمريض! الجنيه ذاته يمكن أن يوجه إلى جمعيات أصغر، فيذهب 70% منه لصالح المريض والفقير...».
فى المقابل هناك مؤسسات كثيرة يضرب منشئوها مثلا فى التضحية والتطوع. مثل مؤسسة أنشأها ويقوم عليها علم من أعلام جراحة القلب فى العالم، ونعلم جميعا أنه لا يمكن أن يتقاضى من أموال التبرعات ما يكافئ سعر خدماته فى السوق، بل وأظنه لا يتقاضى منها شيئا على الإطلاق. هناك مؤسسات تجمع الأموال مخصصة لحالات بعينها، ولتجهيزات محددة تعلم أن الجنيه الذى تنفقه سيذهب مباشرة لتمويل هذا الغرض أو ذاك.
***
بدون هذا الجهد التكافلى سوف يعانى المصريون كثيرا من تراجع الخدمات العلاجية تحديدا، خاصة مع تواضع مخصصات الصحة فى الموازنة العامة، وزيادة معدلات الفقر. لذا فلا ندعو أبدا إلى عزوف المواطنين عن التبرع بالأموال، بل ندعو إلى مزيد من التكافل والتضامن وفق شروط واضحة تحكم العلاقة بين واهب المال ومتلقيه، وتضمن أن يذهب السواد الأعظم من التبرعات إلى المستفيد النهائى، دون أن يقتطع الوسطاء والعاملون عليها النسبة الأكبر من المال.
رقابة وزارة التضامن لا تكفى للتعامل مع هذا الحجم الضخم من الأموال، وأظن أن الهيئة العامة للرقابة المالية يجب أن تلعب دورا حيويا فى وضع القواعد المنظمة لإدارة المؤسسات الخيرية، وفى التفتيش عليها، وكذلك الجهاز المركزى للمحاسبات، كما كانت أموال الوقف على مر التاريخ مناط اهتمام الدولة، متجسدا فى إنشاء الوزارات والهيئات المختصة بإدارة الأوقاف المصرية.