الخبر السعيد أن رئيس الوزراء أقال رئيس هيئة النقل النهرى ومدير شرطة المسطحات المائية ومسئولين آخرين فى حادث مركب الوراق، ما يعنى أن الحكومة اتخذت إجراءات عقابية ضرورية وسريعة ضد المقصّرين.
الخبر السيئ أن هذا الحادث قابل للتكرار،لأن بلادنا ومنذ عقود طويلة تسبح فى بحور من الفساد والإهمال، حتى صار الاثنان جزءا من بنية الدولة وأسلوب حياة معتمد لدى غالبية المصريين.
أحيلك إلى مؤشر الشفافية العالمية لقياس الفساد والذى تحتل مصر فيه المركز 112 بين 177 دولة، وهو تقريبا نفس الموقع الذى تحتكره منذ سنوات، ما يعنى أن أشياء كثيرة تتغير فى واقع المصريين، ويبقى الفساد فى موقعه دون تغيير، حتى بعد أن قاموا بثورتين وغيّروا نظامين.
هذا المؤشر لا يقيس كل أشكال الفساد، وإنما يقتصر على أداء القطاع الخاص وعلاقته بالجهاز الحكومى، خصوصا الرشاوى والعمولات التى يدفعها المستثمرون لتسيير أعمالهم، ما يعنى أن هذا المؤشر يفيد فقط المستثمرين سواء كانوا حكومات أو أفرادا، لكنه لا يقدم صورة كاملة عن الفساد الذى أعنيه: «الفساد كأسلوب حياة»، وهو كلام قلته من قبل، واليوم أعيده عليك لعل وعسى.
الفساد الذى أقصده هو ذاك الذى يسمح باستيراد أغذية فاسدة ولحوما مسرطنة تجلب الموت للناس بدلا من أن تسد جوعهم، هو الذى يسمح بابتلاع الأرض الزراعية وتجريفها ويزيد الفجوة الغذائية اتساعا، هو الذى يمنح تراخيص تعلية لأشخاص بالمخالفة لشروط البناء والمعايير الهندسية المتبعة، هو الذى يمنحك رخصة قيادة على الرغم من أنك لم تجلس خلف مقود سيارة مرة واحدة فى حياتك، هو الذى يمنحك وظيفة لا تستحقها ويحرم منها آخرين أكثر منك جدارة وموهبة، هو الذى يسمح باستيراد أجهزة ومعدات «معيبة» يتم تكهينها فور تسلمها برغم أن شهادات الصلاحية تؤكد جودتها، هو الذى يمنح بعضهم ملايين الأمتار لإقامة مشروعات صناعية وهو يعلم أن نصفها سيدخل «كردون المبانى» بعد شهور قلائل، هو الذى يسمح باستيراد أدوية مغشوشة ويصنّع بدائل خالية من المادة الفعالة، فيقرب المرضى من الموت بدلا من أن يعدهم بالشفاء، هو الذى يخفى سجل قضية من محكمة فيشوش معالمها ويضيع حقوق الناس، ويجعل الجانى بريئا ويضع المجنى عليه خلف القضبان، هو الذى يمكّنك من الحصول على عدة بطاقات شخصية بوظائف ومهن مختلفة وكلها سليمة ومختومة بخاتم النسر، ويعينك على ممارسة كل أشكال النصب والاحتيال دون أن تطولك يد القانون، هو الذى يستفيد من تمدد العشوائيات واحتلال الباعة الجائلين للشوارع والميادين وسيادة قوانين الميكروباص على حركة المرور.
هو الذى منح تراخيص مزوّرة لصاحب مركب الوراق، وسمح بحمولة من الأفراد تزيد على قدرتها بثلاثة أضعاف، فقتل عشرات الأبرياء فى لحظات.
أعرف طبعا أن الفساد ظاهرة عالمية، وأن أكثر دول العالم تقدما وديمقراطية لا تخلو منه، وأنه لدينا يرتبط بغياب القانون وبالانتقائية فى تطبيقه، فضلا عن مجموعة أسباب أخرى تتعلق بالفقر والتقافة المجتمعية والفشل الإدارى والعلاقة الملتبسة بين سلطات الدولة.
أعرف أيضا انه من الحماقة توقّع القضاء على الفساد كليا، وأن أقصى ما نطمح إليه خلال السنوات المقبلة هو تخفيف حدته، بتأكيد سلطة القانون على الكبير قبل الصغير، واعتماد آليات فعالة للرقابة والمحاسبة والشفافية.
غاية ما أتمناه أن يصبح الفساد عرضا استثنائيا، لا أسلوب حياة.