إعلانات الدواء - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 6:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إعلانات الدواء

نشر فى : الخميس 27 يوليه 2017 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 27 يوليه 2017 - 8:40 م

انتشرت فى الأسابيع القليلة الماضية إعلانات عن بعض الأدوية فى أكثر من مكان داخل العاصمة، ولست أدرى إن كانت تلك الإعلانات قد امتدت بالمثل للمحافظات الأخرى أم لا، لكن ما شاهدته فى القاهرة كان يكفى لكى يجعلنى أشعر فى حينه بالقلق. كنت قد اعتدت فى طريقى اليومى من جامعة القاهرة إلى مصر الجديدة أن أصادف العديد من الإعلانات المثبتة فوق الأعمدة تروج لنوعيات معينة من الأدوية، وسمح لى الزحام الشديد وطوابير السيارات التى لا تنتهى بأن أتأمل بإمعان تلك الإعلانات المتكررة وبأن أدوّن بعضها فى أچندتى الصغيرة، وكان من بين ما دونته الإعلانات التالية «أنا الدوا اللى فى كل بيت فى مصر»، « أنا اللغز اللى على كل روشتة»، «أنا اللى بتستغربنى وأنا بافور فى المية». حجبتُ عن قصد أسماء الأدوية المُعْلٓن عنها حتى لا يكون فى الأمر ترويج لها وهو بالضبط عكس ما يهدف إليه هذا المقال، وأكتفى بالقول إن الأدوية المذكورة كانت تعالج أمراض الحموضة والسعال وآلام المفاصل، ومع أنه كما يبدو فإن هذه الأمراض ليست مستعصية إلا أن فكرة الترويج للدواء وسط شعب محب بطبيعته لتعاطى الدواء بمناسبة وبدون مناسبة ويكثر من استخدامه للوقاية قبل العلاج ــ فكرة محفوفة بالمخاطر. خذ عندك الإعلان الذى يقول «أنا الدوا اللى فى كل بيت فى مصر» وتأمل الرسالة المباشرة التى يبعث بها وهى أنه لا يجب للصيدلية الموجودة فى أى بيت مصرى أن تخلو منه، وبالتالى فإن فيه حثا مباشرا على شرائه، وأُشهِد الله أننى على المستوى الشخصى لم أسمع اسم هذا الدواء فى بيت العائلة ولا احتاجت له والحمد لله أسرتى الصغيرة فى أى وقت، ومعنى هذا أن الحياة من دونه ممكنة وأن بيوتا مصرية كثيرة قد تخلو منه دون أن يصيبها مكروه! أو خذ الإعلان الذى يتغزل فى فقاعات الدواء الفوار ويُحيطها بجو من الإثارة والغموض وكأن فيه دعوة غير مباشرة لتناول هذا الدواء واكتشاف لغز الفوران!
***
لدينا نحن المصريين ضعف خاص إزاء الدواء بكل أنواعه، لا نثق كثيرا فى مناعتنا الجسدية ولا نعول طويلا على قدرتنا الذاتية على مقاومة الڤيروسات التى تهاجمنا. نُقّيم «شطارة» الطبيب بحسب طول الروشتة التى يكتبها ونعتبر أنه كلما زاد عدد الأدوية التى ينصحنا بها كان ذلك أفضل جدا. لذلك حين يقول قائل إن الدعاية لبعض الأدوية ظاهرة موجودة حتى فى الدول المتقدمة فما بالنا ننتقد وجودها فى مصر ــ نقول نعم يحدث هذا لكن المقارنة مع مصر لا تجوز، ففى هذه الدول رقابة صارمة على صرف الأدوية، كما أن شعوبها لا تعرف ثقافة شراء الدواء أخذًا بالأحوط، بل إنها لا تفهمها ابتداء، ومن هنا فعندما تقوم بعض شركات الأدوية فيها بالإعلان عن دواء معين فإن هذا لا يؤدى إلى زيادة الطلب عليه بل إن التطرف فى الاتجاه العكسى ــ أى اتخاذ موقف معاد للدواء بالمطلق ــ احتمال وارد.
***
أعرف حالات لبعض الأسر فى الدول المتقدمة تذهب بعيدا جدا فى كراهيتها للدواء إلى حد قد يجعلها ترفض تطعيم أبنائها ضد الأمراض الشائعة كشلل الأطفال والالتهابات الكبدية... إلخ، ورغم أن هذا السلوك قد يولِّد ضغوطا مجتمعية على تلك الأسر ويتسبب فى منع مخالطة أبنائها مخافة أن يكونوا مصدرا محتملا للعدوى، إلا أنها تقاوم تلك الضغوط ظنًا منها أنها تبنى المناعة الذاتية لصغارها دون مساعدة خارجية. بطبيعة الحال فإن هذا السلوك يمثل استثناء لا يقاس عليه، لكن القصد من المثال السابق هو تأكيد أن شعوب تلك الدول تتمتع بحصانة كافية ضد إغراءات الأدوية وإعلاناتها. كما أن الأطباء بدورهم يتعاملون بحذر شديد مع الدواء ولا ترعبهم أعراض معينة كارتفاع درجات الحرارة فيما نحن نقيم لها الدنيا ولا نقعدها، وهم يقتصدون فى حجم العبوات التى ينصحون بها مرضاهم فلا تزيد عن المطلوب قرصا واحدا، ولئن كان فى هذا الاقتصاد الشديد شيء من المخاطرة لكنهم يعتبرون أن تعاطى الدواء دون مبرر مخاطره أشد، خلف هذا التفكير يوجد منطق طبى كما يوجد أيضا منطق اقتصادى فقرص زائد عن حاجة مريض هو قرص ناقص عن حاجة مريض آخر.
***
إذا كانت الإعلانات السابقة تشجع الإقبال على شراء أدوية مسجلة لدى وزارة الصحة من باب الاحتراز لمرض محتمل ــ فإن هناك وجها آخر للظاهرة يتعلق بإعلانات الطب البديل التى تمثل الباب الخلفى لبائعى الوهم للمواطنين، ولهذا عواقبه الوخيمة بما لا يقاس. سنجد بين المقبلين على بضاعة الوهم هذه مرضى يتعلقون بسراب الشفاء بعد أن يكون الطب قد قال كلمته وأعيت الأطباء سبل العلاج، ونساء من كل الأعمار تبحثن عن قوام أرشق دون اتباع حمية غذائية ولا حرمان من أطايب الطعام. فى هذا الأمر يختلط الوهم بقلة الوعى بالابتزاز الدينى، فكثير ممن يمارسون الطب البديل يُلبِسون عملهم رداء دينيا ويدعون أنه الأقرب للفطرة الإنسانية. ولقد تصدى للترويج لهذه الشعوذة العلاجية أطباء محترمون من أمثال الدكتور خالد منتصر الذى كتب العديد من المقالات للتحذير من خطورة التداوى بأعشاب لا هى عولجت بطريقة علمية ولا أحد يعرف خصائص تركيبتها ما يجعلها بحد ذاتها مصدرا محتملا للمرض لا الشفاء. وفِى أعقاب كل حملة إعلامية جادة ضد التداوى بالأعشاب والطب البديل تتحرك وزارة الصحة ضد المراكز التى تُمارس هذا النشاط ثم لا تلبث الإعلانات عنه أن تجد طريقها مجددا لفضائياتنا لا بل وتتحفنا تلك الفضائيات بالترويج للرقية الشرعية ومطاردة الجن والعفاريت.
***
أخيرا نقدر أن لكل إعلان منطقه الربحى المفهوم، لكن الحفاظ على صحة المصريين يحكمه منطق مختلف تماما، ولذلك وقبل أن يأتى اليوم الذى نجد فيه أطفالنا يتغنون بالفقاعات المثيرة التى تنبعث من الدواء الفوار إياه ــ كما يتغنون بأشياء كثيرة لا نحبها ــ ليتنا نوقف إعلانات الأدوية ونمتنع عن الترويج لها.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات