صُور عن «اللبنانىّ» بدأت الثورة تغيّرها... - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صُور عن «اللبنانىّ» بدأت الثورة تغيّرها...

نشر فى : الإثنين 28 أكتوبر 2019 - 8:25 م | آخر تحديث : الإثنين 28 أكتوبر 2019 - 8:25 م

نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب حازم صاغية ونعرض منه ما يلى:

منذ 1975 على الأقلّ ارتبطت باللبنانى صور خمس، بعضها أقدم من ذاك التاريخ بعقود: إنّه تاجر بأردأ معانى الكلمة وأحطّها، وأنّه كائن أسطورى مُحلّق. لكنّه أيضا، وهذا ما يخالف الصورتين الأولى والثانية، كائن عنيف، وفوق هذا هو طائفىّ، بل الطائفى بألف ولام التعريف، المشوب تاليا بالعنصريّة.
اللبنانى التاجر: تبعا لطبيعة الاقتصاد السائد، حيث الخدمات هى العمود الفقرىّ، نُسبت إلى اللبنانيين صفة التجّار. الفينيقيّون استحضروا بقوّة من الكتب العتيقة. لكنّ التاجر، فى الفرع القومى ــ اليسارى من ثقافتنا (وإن لم يكن فى الثقافة الإسلاميّة) وجه ردىء. كثير من الشتائم السياسيّة (عميل، زبون، صفقة، مساومة، تسوية...) مُستمَدّ من قاموس التجارة ومصطلحاتها. اللبنانىّ، بالتالى، هو النفعى بأرخص معانى الكلمة وأشدّها ابتذالا: النفعى الذى لا مبادئ له. السينيكى المتنصّل من القضايا والخبيث فى التعامل معها، والذى يصحّ فيه الوصف الشهير: لكلّ شىء سعر وما من شىء له قيمة.
اللبنانى الأسطورىّ: أدونيس وعشتروت وإخوانهما كانوا لا يكفّون عن الهطول علينا: من سماء الشعر وسماء الأغنية، فضلا عن الكتاب المدرسى بالطبع. فـ«نحن والقمر جيران» والبلد «قطعة سما». العلاقة مع الواقع وهمومه ومسائله بدت مقطوعة تماما. التعالى على الواقع هو ما لا ينتج العقل سواه. صحيحٌ أنّ اللبنانى يعانى الهموم ويئنّ تحت وطأتها إلاّ أنّه لا يفكّرها ولا يفكّر فيها: «ما بيلتقى مرّاتْ عنّا رغيف ــ ومنعيش بأطيب من الجنّة»، كما كتب ميشال طراد وغنّت فيروز.
اللبنانى العنيف: هو أصلا، فى ثقافته الرومنطيقيّة القديمة، كثير التمجيد للجبل والصخر والوعر. الرحبانيّان كتبا: «نحنا ودْيَاب الغابات ربِينا». «تفتيت الصخر» قُدّم كأنّه رياضة وطنيّة للّبنانيين. فى الموازاة، ظلّ تمجيد الجيش، أى القوّة و«الرجولة»، موضع إجماع معلن وإن كاذب. فى منعطف آخر بدأ عام 1975. سجّل لبنان اسمه واحدا من البلدان التى افتتحت الحروب الأهليّة. الميليشيات. القتل بلا رحمة. القتل على الهويّة. القصف العشوائىّ. الخطف... انكشف ضعفنا أمام أسماء كـ«أبو الجماجم» و«أبو الهول» روّجتها الثورة الفلسطينيّة. بعد هذين المصدرين، الريفى المسيحى والقومى ــ اليسارى ــ الفلسطينىّ، أضاف «حزب الله» مصدرا ثالثا يحفّ به المقدّس الشيعى وينهل من تواريخ دينيّة ومذهبيّة: عاشوراء وكربلاء و«هيهات منّا الذلّة».
اللبنانى الطائفىّ: لا يختلف التركيب اللبنانى نوعيّا عن تراكيب المشرق العربىّ. لكنّ عدم تعرّضه لنظام قومى وعسكرى يفرض على الناس كيف يسمّون أنفسهم، وتبنّى الدولة نفسها للطائفيّة السياسيّة وقيام إدارتها على المحاصصة، جعلت اللبنانى ثرثارا فى الجهر بطائفيّته مقابل ميل عربى إلى الكتمان. لم تعد الطائفيّة مجرّد تهمة أخلاقيّة أو عيب ينبغى اجتنابه. باتت أداة للمعرفة والتعيين، وكادت تصير أداة وحيدة لذلك. غير بعيد عنها، نمتِ العنصريّة واندفعت تستهدف المدنيين السوريين والفلسطينيين وعموم الأجانب. هذا الاستهداف بلغ حدّا من الوضاعة جعلته الأزمة الاقتصاديّة مجال التعبير الأوحد عن «التفوّق» و«العملقة».
مراحل وحقب كثيرة، وقوى وأيديولوجيّات عدة، أنتجت هذه الصور على ما فيها من انسجام ومن تضارب فى آنٍ واحد. لكنّ الثورة التى فجّرها شبّان لبنان وشابّاته بدأت تكسر هذه الصور شبه الحقيقيّة شبه النمطيّة. إنّها تباشر تطهير النفس الجمعيّة منها. فاللبنانى كما تقدّمه الثورة، وكما ترفعه عَلَما، صاحب مبدأ يناضل فى سبيله. إنّه يعلن فقره على الملأ ويسمو به إلى سويّة القضيّة.

التعليقات