أعاني على مدار حياتي من ضعف خاص تجاه بقايا الأشياء. تنتهي العلاقات ويذهب أصحابها إلى حيث يذهبون وتظل بقاياهم تستدعيهم وتذكّر بهم، تجتّر تاريخًا قديمًا لم يعد يمّت للواقع بصِلة وتحتفظ لنفسها بمكان خاص في ركن بعيد من أركان الذات. يقول نزار قبّاني في قصيدة "ماذا أقول له؟":على المقاعد بعضٌ من سجائره وفي الزوايا بقايا من بقاياه. تنشد نجاة الصغيرة هذه القصيدة الرائعة بإحساس مرهف لا مزيد عليه، فإذا بي معها يدًا بيد نتفقّد هنا وهناك بقايا حبيبها الغائب ونفتّش سويًا في الزوايا عن الرسائل والجرائد والكتب وكل الأشياء الصغيرة التي تتولّد منها شحنات كهربائية تهز القلب هزّا بحكم التعّود والحنين وعِشرة السنين. قصيدة "ماذا أقول له؟" هي طبق الأصل قصيدة "أيظن؟" فهما تتشابهان في الإحساس والمعنى وحتى في علامة الاستفهام التي تقترن بهما، وفي الحالتين نحن إزاء حصار الأشياء الصغيرة لامرأة ممزقة بين جرح غائر وحب غائر، يخزها الجرح المفتوح فتقرر الابتعاد عن حبيبها، ويطاردها طيف الحب القديم فتعود أدراجها ولا تجد أحلى من الرجوع إليه، بل وتُعلمنا على الملأ بأنها مازالت ألف تهواه. هذه القصيدة إذن هي تلك، مع تلاعب مدروس بالكلمات، وليس أمهر من نزار تلاعبًا بالكلمات.
•••
عندما كتَبَت الصديقة السفيرة چيهان أمين على صفحة الفيسبوك الخاصة بها الجملة البليغة التالية "زي ما عيب تقدّم بقايا أكل، عيب تقدّم بقايا وقت، بقايا طاقة، بقايا مشاعر"، فإنها دون أن تدري جدّدت أزمتي المزمنة مع مسألة البقايا، لكنها فعلت ذلك من زاوية أخرى. ففي هذا البوست نحن إزاء بقايا مختلفة عن تلك التي كتب عنها نزار وغنّت لها نجاة وإن ظل الجوهر واحدًا. بقايا نزار ونجاة هي عبارة عن مجموعة أشياء تخص حبيبَين.. أشياؤه وأشياؤها. أشياؤه الكؤوس والزهور والجرائد، وأشياؤها المرايا والفساتين وأحمر الشفاه، أما بقايا البوست فإنها كل اللفتات الرقيقة التي تفسح للآخرين مكانًا في وقتنا وجهدنا وأحاسيسنا والتي يمكن اختصارها في كلمة واحدة هي الاهتمام. بقايا نزار ونجاة هي فضلات علاقة حب انتهت وتحوّلت إلى أثر بعد عين، أما البقايا في البوست فإنها أسلوب في إدارة العلاقات الإنسانية مع آخرين تربطنا بهم علاقة لا يُشتَرَط فيها أن تكون علاقة حب فقد تكون علاقة عمل أو جيرة أو صداقة أو أي علاقة أخرى.
•••
هل يوجد بيننا من لا يتعامل مع الآخرين بأسلوب البقايا؟ لا إجابة قاطعة فالظواهر الاجتماعية بطبيعتها لا تحتمل الأحكام المطلقة، ومع ذلك يمكن القول إن أكثرنا لم يعد يقدّم في علاقاته الإنسانية سوى البقايا. تعقدَت الحياة المعاصرة بشكل مذهل وتزايدت الأعباء والضغوطات اليومية ولم تعد توجد بَرَكَة في الوقت. تعقيدات الحياة مسألة نسبية بالتأكيد، ومقابل الصعوبة التي نواجهها في تدبير بعض المتطلبات توجد سهولة في تلبية متطلبات أخرى، لكن الذي يصنع الفرق بين زمان والآن، هو انكماش المساحات المشتركة التي كانت تجمع بين الناس. زمان كانت هناك موائد طعام وحفلات الست وزيارات عائلية وصلوات وخروجات تجمعنا وتتيح لشركائنا في هذه المناسبات جميعًا كل الوقت وكل الطاقة وكل المشاعر التي يحتاجون إليها. الآن اختفى ذلك وتحوّلت بيوتنا إلى بانسيونات وصارت علاقاتنا عابرة أو سطحية. انتقَلَت الحكاوي والأخبار والصور من غرف المعيشة والألبومات والأمسيات الحميمة مع الأهل والأصدقاء إلى غرف الدردشة وحوائط الفيسبوك وحسابات الانستجرام، وتعلّقت الأنظار على مدار الساعة بتغريدات طائر على شكل عصفورة زرقاء اللون. وعندما جاءت كورونا وحبستنا معًا بين جدران أربعة، تبيّن لنا ساعتها كم نحن غرباء عن بعضنا البعض، وهكذا تعامَلنا كما يتعامل الغرباء بشيء من الحذر وبقايا اهتمام.
•••
التعامل بالبقايا هو ثمن ندفعه لانغماسنا أكثر وأكثر في هذا العالم الافتراضي الذي يبدو كمثل ندّاهة يوسف إدريس لا سبيل لمقاومته/مقاومتها، فلا يتبقى لعالم الواقع الذي نعيش فيه فعليًا إلا أقل القليل. إلى أن غمرتنا موجات الثورة الاتصالية تباعًا كنّا لا نعرّف من الأشخاص إلا نوعين: الأشخاص الطبيعيون والأشخاص الاعتباريون، الآن ظهر الأشخاص الافتراضيون، هؤلاء الذين يحتلون مساحات متزايدة في فضاءاتنا اليومية ويضيفون لحسابهم باضطراد كل ما يخصموه من علاقاتنا بالناس والأشياء والواقع. هم افتراضيون لأننا نتعامل معهم وفق الصورة التي يرسمونها لأنفسهم وليس كما هم فعلًا، وهذه الصورة فيها من الانطباع والخيال والوهم أكثر بكثير مما فيها من الحقيقة. وهم افتراضيون أيضًا لأنهم في الجلسات الجماعية لا يظهرون إلا لمن يستدعيهم بضغطة من إصبعه على الشاشة، فلا يراهم سواه ولا يضحك لقفشاتهم إلا هو. إنهم يبدون كما لو كانوا يضعون فوق رؤوسهم طاقية الإخفاء.
•••
يا عزيزتي السفيرة چيهان من الصعب أن نساوي بين بقايا الطعام وبقايا الجهد والطاقة والمشاعر، فقدرتنا على التحكم في بقايا الطعام كبيرة وتخضع لاعتبارات الذوق والملاءمة والإتيكيت، أما التعامل مع بقايا الجهد والطاقة والمشاعر فيتوقف على عوامل لا حيلة لنا فيها لأنها تتعلق بالعولمة وهي مستمرة معنا حتى إشعار آخر.