نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبدالحسين شعبان.. جاء فيه ما يلى..
ثمة أسئلة أخذت تطرح نفسها بإلحاح فى السنوات الأخيرة مفادها ما هى العلاقة بين الثقافة والتنمية؟ وهل يمكن للثقافة أن تدرّ اقتصاديا على المجتمع؟ وهل تقود الثقافة التنمية أم العكس هو الصحيح؟ وبعد ذلك، ما هى أبرز الاستثمارات الثقافية فى اقتصاديات العالم اليوم من سياحة وسينما وفنون وتواصل بين الشعوب والمجتمعات والبلدان؟ وأين موقع بلداننا العربية من ذلك فى ظل العصر الرقمى ومجتمع المعرفة والذكاء الاصطناعى؟
وعلى الرغم من أن جميع الدساتير العربية تتضمّن نصوصا تؤكد على أهمية «رعاية الدولة للثقافة» التى هى «حق لكل مواطن»، لكن ما هو سائد فى الأغلب أن الثقافة ووزارتها تعتبر أدنى مستوى مما يطلق عليه الوزارات السيادية التى يجرى الصراع عليها أحيانا فى بعض البلدان بين الكتل المتنافسة، مثل وزارات الداخلية والدفاع والمالية والنفط وغيرها.
ولعلّ فكرة «الرعاية» تجعل السلطة الحاكمة تتحكّم فى الثقافة لاعتبارات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو أيديولوجية قومية أو دينية أو طائفية أو غيرها، بفعل محاولة توظيفها بما يخدم مصالحها ويعزز من موقعها ونفوذها، فى حين أن الثقافة مقترنة بالمعرفة من حيث إنتاجها ونقلها ونشرها وتعميمها، تلك التى ينبغى أن تكون فى متناول المجتمع، وقد كان العرب تاريخيا يعلون من شأن الثقافة والمثقف والأديب والكاتب، إلى أن تفكّكت الدولة العربية وانحدرت وعاشت الأمة فترة مظلمة من تاريخها، فصار ينظر إلى الثقافة كرأس حاجة ليس إلا، أو ترف غير منتج، بل لا علاقة له بالإنتاج.
وبرزت أهمية اقتصاديات الثقافة فى ربع القرن الماضى على نحو واسع ترافقا مع الطور الجديد للثورة العلمية ــ التقنية والطفرة الرقمية «الديجيتال» وتكنولوجيا الاتصالات والمواصلات؛ حيث أصبح للثقافة دور محورى فى عملية الاقتصاد، بالضد من الاعتقاد الذى كان سائدا، بل مهيمنا، لسنوات طويلة من أن الثقافة بشكل عام لا مردود مادى يذكر منها، فى حين أن الثقافة إذا انتشرت فى مجالات الحياة المختلفة، فإنها ستؤثر فى التنمية بجميع مجالاتها وهو ما نطلق عليه «التنمية المستدامة»، أى «توسيع خيارات الناس» ويمكن ملاحظة ذلك من خلال نشر الوعى الثقافى بشكل عام والثقافة الاجتماعية بشكل خاص وكيف يمكن أن تؤدى دورا إيجابيا على مجمل عملية التنمية، بل على مجموع الحياة العامة بترشيد استخدام الموارد وتقليص النفقات فى القطاعات المختلفة ورفع الشعور بالمسئولية، لاسيما فى ظل السلوك الثقافى المدنى والمتحضّر.
وإذا ما تكرس الوعى الثقافى والفهم الحضارى لدور الثقافة فإن ذلك ينعكس إيجابا على احترام النظام العام والوقت والذوق العام ومعايير الجمال والحُسن وقيم السلام والعدل والتسامح والخير واحترام الآخر، بما يؤثر فى الاقتصاد والتنمية وذلك من خلال تكاملها مع الثقافة، عبر العلاقة التبادلية التفاعلية، وإذا كان الاقتصاد محوريا فى عملية التنمية، فإنه لا تنمية حقيقية دون الثقافة بما فيها ثقافة اقتصادية، أو بمعزل عنها، وهكذا تنشأ العلاقة المتداخلة والمتعاشقة بينهما والتى لا يمكن فصلها.
والثقافة لا يمكنها أن تحقّق آمالها وطموحاتها وتواكب الجديد وتواجه تحدّيات العصر دون دعم مالى، فالمال هو العمود الفقرى للثقافة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك فى ظل اقتصاد متخلّف، بل تحتاج المسألة إلى اقتصاد متطوّر وعصرى يستجيب لحاجات الثقافة، لاسيّما توفير الأموال لدعمها مجتمعيا واستثماريا من جهة، والمساهمة فى عملية التنمية من جهة أخرى، بما فيها إيجاد فرص عمل وتقليص مستوى البطالة من خلال السياحة الثقافية المتنوّعة أو عبر السينما أو المسرح أو مراكز الترفيه الثقافية المختلفة أو المعارض الفنية والمؤتمرات الثقافية وكل ما له علاقة بالفن والأدب.
وهكذا كلما تعززت الثقافة اغتنت التنمية، والعكس صحيح من خلال الأدوات والوسائل بما يعلى من شأن الاثنين معا، ناهيك عن جذب فرص عمل جديدة، وتوظيف الابتكار والتطوير والتجديد من خلال العرض والتسويق والتشويق للمنتج الثقافى والاقتصادى، بما يعكس ثقافات الشعوب وحضاراتها المختلفة، وهناك اليوم من يضع التواصل بين البشر وتبادل المصالح فى المقدمة تحت عنوان «مختلفون بلا خلافات» تعبيرا عن هويّات متنوّعة بهدف تحقيق التكامل والتفاعل والتعاون، من خلال التفكير والسلوك للمجتمعات المختلفة بما فيها من تاريخ وفنون وآثار ولغات وفولكلور.
وكل ذلك يجرى فى عملية اقتصادية متراكبة، بما فيها من لقاءات وعلاقات عامة وتسوية المشكلات والخلافات وفتح آفاق تعاون جديد فى المجالات المختلفة، وهكذا تتفاعل سياقات الثقافى بالتنموى من خلال المنافع المتبادلة، علما بأن الاقتصاد هو التعبير المكثف عن السياسة، وهو المؤثر الأكبر فيها وهو الملهم للثقافة أيضا.