أسال موضوع الغش فى الامتحانات العامة هذا العام الكثير من الحبر، وتردد على ألسنة الملايين فى البيوت والشارع وقنوات التليفزيون ونشرت مئات المقالات والتقارير والتصريحات على صفحات الصحف. وبدأ الأمر كما لو أن الحديث يجرى عن استثناء دخيل على مجتمعنا أفزعنا وروعنا واستقطب كل اهتمامنا وفعل فينا ما يفعل دخول ذئب فى زريبة الخراف. فما الفرق بين الذى يسرق هاتفاً نقالاً أو محفظة نقود أو راديو سيارة، وذاك الذى يغش فى الامتحان؟.. فقط الأخير انتقل إلى مستوى أهله لممارسة السرقة فى فصل دراسى والآخر ربما طرد أو لم يطرد من المدرسة فمارس السرقة فى السوق والشارع.. أطفال نشأوا فى أجواء السرقة والاختلاس، يسرقون ويغشون.. فلماذا هذه الهالة الإعلامية والفيسبوكية على الغشاشين فى البكالوريا وشهادة التعليم المتوسط؟ الغش فى كل مكان.. الذى يبيع يغش ويخسر الميزان والذى يصلح لك السيارة أو الكمبيوتر أو الساعة أو يرمم لك البناء أو.. أو.. أو.. يغش.. الجميع يغش، وطالب البكالوريا فى هذه الأجواء طبيعى أن يغش.. هو يرى أن الجميع نال ما نال بالغش، فلِمَ يتأخر هو إذن مادام الغش قاعدة عامة؟..
شهادات تعليمية مغشوشة من زمان.. وصال الشك يحوم على الجميع فربما من درسوهم كانوا يغشون ومن يراقبونهم كى لا يغشوا كانوا غشاشين.. ومن يكتبون فى الجرائد وعلى فيسبوك ينددون بالغش كانوا يغشون حين كانت حاجتهم للغش قائمة.. المجتمع كله غشاش.. الاستثناء اليوم هو الذى لا يسرق ولا يغش سيعيش فقيرا ويسقط فى الامتحانات ولا ينال وظيفة ولا سكنا وتغلق أمامه جميع الأبواب. فهو بوضع المجتمع الحالى «بهلول ميعرفش صلاحو».. مواعظ المساجد ودروس الأخلاق فى المدارس خسرت خسرانا مبينا وتأكد أنها مجرد أقاويل لا تسمن ولا تغنى من جوع، وظل الغش سيد الموقف.
***
والسرقة تبقى فى كل مكان.. لأن المجتمع هو هذا فى الواقع وليس ما تريده المواعظ. يقرأ الناس فى الجرائد يوميا عن غش فى الطريق السيار شرق ـ غرب الذى كلف البلد مليارات الدولارات ويحصد المشرفون عليه ترقيات فى مناصبهم. وتدفع الشروط والقيود الإدارية كثير من الناس إلى الغش والتزوير وحين يختار سائق سيارة أجرة بين دفع رشوة عشرة آلاف دينار لرجل أمن أوقفه ظلما على الطريق أو سحب رخصة السياقة التى يعيل بها أسرته فهو بالتأكيد يصلى للاختيار الأول ولا يوجد من يختار الثانى غير البهلول سالف الذكر. ويقرأ الأطفال فى الجرائد ويسمعون تصريحات شخصيات تؤكد أن كل الانتخابات مزورة وكل المسئولين وصلوا إلى مناصبهم بالغش، ومع ذلك الأمور تسير بشكل عادى فى البلد، ويترسخ منطق الغش كقاعدة، وينسحب تماما من خانة الاستثناء.
وتنقل الصحف يوميا فى صفحات الحوادث أخبارا عن وقوع أئمة فى معاصى أخلاقية مخلة بالحياء بعدما كانوا لسنوات يرددون خطبا جميلة ومغشوشة فى الحقيقة لأن أصحابها يفعلون فى الواقع عكس مواعظهم ونصائحهم. يكتشف الناس صدفة أو تسريبا أن المسئول الكبير الفلانى اشترى شقة فى باريس أو لندن أو برشلونة، وهو موظف إدارى يتقاضى أجرا لا يؤهله لذلك ولم يرث عن أجداده المزارعين، والرعاة الفقراء أى شىء. يشترى شقة فى الخارج باليورو والدولار وقوانين البلد تمنع نقل العملة الأجنبية إلى الخارج فكيف اشترى إذن إن لم يكن ثمة غش وتحايل على القانون الذى يطبق على من يحترمه فقط؟.. ويبقى هذا المسئول الغشاش فى موقعه ويرقى إلى مراتب أكبر. ويكتشفون أن القاضى الفلانى الذى كان فى أعلى الرتب إنما كان يغش فى أحكامه على الناس ويصدرها ظالمة تحت الطلب للحصول على مزايا.
الغش إذن نتاج نظام مجتمعى أفرز مؤسسات تتعاطى الغش قانونا وتصدر قوانين تحث على الغش وتضع حواجز على طريق حياة الناس تدفعهم إلى أن يصيروا عناصر فاعلة فى مجموعة الفساد العملاقة.