لا تنقل السينما الواقع المعيش كما هو، بل تعريه وتفضحه، وتضع أعيننا على جروح وآلام، كما تبصرنا بمناطق القوة والضعف، وهى فى الأساس تجسيد حى لحياتنا بحلوها ومرها، وسجل لماضينا وحاضرنا بلا رتوش، وإن اعتمد صناع الأفلام على قصص من الخيال، فهى فى الحقيقة أطياف تحلِّق بأجنحة فى سماء أرواحنا بحثا عن مستقبل أكثر راحة وأقل معاناة.
هكذا يجب أن ننظر للأعمال السينمائية، خاصة تلك التى تتفاعل مع واقعنا الاجتماعى، وتمس تفاصيل حياتنا اليومية، خلف البيوت، وفى طرقات الحارات التى تقع على أطراف مدن قاسية تسحق سكانها وتطحنهم، فتخلق نماذجا من البشر مختلفة الأشكال والألوان، وإن خرجت من نسل واحد، فهى مجبرة على خوض معركة البقاء فى صراع مرير مع عادات وتقاليد وأعراف صنعتها طبقات من التحكم العائلى، والاستبداد المجتمعى، والترهيب الدينى.
من هذه الأجواء انطلق المخرج الأردنى الشاب زيد أبوحمدان، وهو يصنع فيلمه الروائى الأول «بنات عبدالرحمن» الذى عرض فى الدورة الـ 43 لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى ضمن المسابقة الرسمية، وحظى باهتمام جماهيرى واسع، لم يترك مقعدا شاغرا فى المسرح الكبير لدار الأوبرا المصرية خلال عرضه الأول عالميا، ونال استحسانا منقطع النظير، وتفاعلا اعتبره البعض شهادة حب لمخرج الفيلم وبطلاته: صبا مبارك، وحنان حلو، وفرح بسيسو، ومريم الباشا.
أربع قصص لأربع شقيقات، اختارهن زيد أبوحمدان، ليغوص عميقا، ليس فى واقع المرأة الأردنية فحسب، ولكن فى بنيان مجتمع عربى مأزوم اتخذ من قهر النساء وملاحقتهن سلاحا للمدارة على خيبات وإحباطات، فتحولت البيوت إلى سجون لقمع أرواح تبحث عن خلاص هو فى الحقيقة سعى جاد لإخراج مجتمعاتنا من واقع مرير يحاصرنا بتشدد يتخفى بعباءة تدين شكلى هدفه الترهيب، والعمل على بقائنا لقمة سائغة لاستبداد مختلف الأشكال والأنواع.
زينب (فرح بسيسو) إحدى الشقيقات الأربع، والابنة التى ضحت بسعادتها الفردية لتعول والدها المسن والمصاب بالألزهايمر، وفاتها قطار الزواج، تجد نفسها فى مأزق اختفاء الأب بعد أن شاهدها فى فستان زفاف كانت تحيكه لإحدى قريباتها، قبيل لحظات من عودة شقيقاتها الثلاث لبيت الأسرة، لينخرطن جميعا، وسط تكتم، خشية الفضيحة، فى البحث عن أب مفقود، أو بالأحرى البحث عن ذات كل واحدة من شقيقات أربع وجدن أنفسهن أمام حصار اجتماعى خانق يريد سلب أرواحهن الهائمة بحثا عن الحرية.
تختلف الشقيقات وتتباين شخصياتهن، فزينب تبدو منسحقة وضعيفة الشخصية بعد أن دفنت أحلامها للالتحاق بمعهد الموسيقى لرعاية والدها، وآمال (صبا مبارك) التى جرى تزويجها فى سن مبكرة لرجل متشدد دينيا، يحجبها خلف نقاب خانق، لكنها تتحدى رغبته فى تزويج ابنتهما القاصر التى لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، وسماح (حنان حلو) النزقة التى تطارد زوجا ثريا تشك فى خيانته، ولا تكف عن السباب، أما ختام، الأخت الأصغر سنا، فهى نموذج لتمرد جيل يسعى لكسر الحصار المجتمعى حتى وإن خسر حضن الأب الذى رفض تمردها على العادات والتقاليد ورحيلها إلى دبى حيث تعيش مع«صديق».
وأثناء البحث عن الأب (خالد الطريفي)، تقع الشقيقات الأربع فريسة شجار لا ينتهى مع بعضهن البعض، ولوم اجتماعى من الأهل والجيران، غير أنهن، وفى جلسة مكاشفة للعيوب، يدركن قوتهن، فيتماسكن فى وجه القريب المتنمر، والجارة اللئيمة، والجار المتحرش، قبل أن يطلقن صرخات عاليات ضد القمع الذى يكبل النساء فى المجتمعات العربية كافة، فالقهر واحد فى جوهرة، وأحيانا تمارسه نساء ضد بنات جنسهن جنبا إلى جنب الرجال.
«بنات عبدالرحمن» نموذج لسينما عربية، لا تغرق فى العرى ومضاجع الحريم، ولا تنشغل بتوافه الأشياء، ولا تضع عينها على جوائز المهرجانات، بقدر سعيها للمساهمة فى خلق واقع جديد يبدأ بتحرير النساء أنفسهن من القهر الاجتماعى والتطرف الدينى، وكسر قيود تراكمت عبر الأجيال.. فهل حان التخلص منها؟!