عمد بعضهم إلى رثاء الربيع العربى بعد دفنهم إياه بين الركام الهائل الذى تركته الحروب، وسعى بعض آخر إلى هجائه حتى السخرية منه ومن صانعيه، الحالمين الكبار. لكنّ هذا الربيع العربى يظل، مهما قيل عنه وكتب، ربيع شعوب وأفراد، ربيع مدن وساحات، وتحت سمائه الزرقاء سقطت نصب طغاة وفُتحت أبواب سجون وخرج إلى الحرية آلاف المأسورين فى أوطان كانت أشبه بزنزانات شاسعة. ولا حاجة هنا إلى تعداد الإنجازات التى حملها هذا الربيع والأحلام التى حققها أو حقق أجزاء منها لا سيما فى بلدان كانت تحكمها أنظمة من معدن وعلى رأسها طغاة لا يعنيهم سوى كرسى السلطة. ولا حاجة أيضا إلى استعادة حجم الخراب الذى حل والدم الذى أريق وأعداد الشهداء وأرتال النازحين... فمثلما كان الحلم كبيرا كانت المأساة كبيرة. وليس الثوار على اختلاف مواقعهم، هم من يحملون على عاتقهم ربقة هذه المأساة، بل الطغاة الذين دمروا وقتلوا وأبادوا متمسكين ولو برقعة صغيرة من بقايا سلطتهم، ثم الظلاميون الذين نبتوا بُعيد اندلاع الثورة وراحوا يعيثون خرابا وقتلا.
حل الربيع العربى فى أوانه، انبثقت شعلته عندما حان وقت انبثاقها. لم تعد الشعوب المنتفضة عفويا وببراءة تامة قادرة على احتمال الصمت والذل والإذعان والخوف... خصوصا فى بلد مثل سورية أو ليبيا. لم تعد الشعوب قادرة على التجاهل والتغاضى والتأجيل، انتفضت وثارت بعدما بلغت صلافة السلطة الدكتاتورية أوجها ولم تدع أمامها سوى هذا القدر الذى صنعته هى بنفسها. قررت هذه الشعوب أن تهدم جدار الخوف فهدمته وتحررت من إرثه، إرث «الخوف من الخوف» كما كتبت ديمة ونوس فى روايتها «الخائفون». تحررت من ربقة الدكتاتورية التى قضت على الحاضر والمستقبل بعدما قضت على الماضى وكادت تقضى على إنسانية الإنسان جاعلة إياه رقما فى مزرعة، تشبه «مزرعة» جورج اوريل.
هذا الربيع العربى سيظل هو الربيع مهما كثر أعداؤه ومهما حاول بعضهم، وما أكثرهم، تشويه صورته. ربيع الثوار الانقياء، ربيع المتمردين الحالمين، ربيع الفقراء والمعدمين والجائعين والمهانين... وإن كان متوقعا أن يواجه هذا الربيع ما واجه من عثرات وعقبات فهو استطاع أن يطوى صفحات ويفتح صفحات أخرى. أعداؤه الذين تربصوا به وكمنوا له هم أكثر من أن يحصوا: الأنظمة وجماعات الأنظمة والشبيحة والقتلة واللصوص، الحركات الأصولية التكفيرية وفى مقدمها «داعش» و«النصرة».. الغرب الذى لا تعنيه سوى مصالحه وفى الطليعة روسيا وأوروبا وأمريكا، العدو الإسرائيلى، تجار الأسلحة العابثون بمصائر الشعوب.. وفى هذا «البازار» الدموى كان الثوار ضحايا مثل سائر الضحايا الأبرياء فى الثورة وما قبلها. لكنهم الضحايا الذين يرفضون الاستسلام. وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها على جبهات عدة، فى الداخل كما فى الخارج، الأنظمة الدكتاتورية وحلفاؤها من جهة والقوات الظلامية من جهة. أصبحوا فى موقع المابين بين، جحيم من هنا وجحيم من هناك.
ليست النار الربيعية اللطيفة والمحرّرة هى التى انقلبت نيران حرائق حاقدة تلتهم المدن والأحياء. ليست عاصفة الربيع الدافئ هى التى انقلبت رياحا عاتية وهوجاء تقتلع البيوت والحقول والغابات. أعداء الربيع أوقعوا الربيع وشعوبه فى الأسر، حاصروهم من الجهات كلها، أسروهم، خربوا ساحاتهم وقطعوا طرقهم ونصبوا الحواجز بينهم وبين أهلهم. ودخل معترك المناضلين والشهداء ثوار كذبة ومزيفون، ثوار مقنعون لا غاية لهم إلا نشر الظلام.
كان ثوار المدن والساحات يطمحون إلى إسقاط الأنظمة الدكتاتورية فباتوا الآن يواجهون «أنظمة» أخرى تضاهيها إجراما وبطشا وصلافة. وحاولت هذه القوى الطارئة والمتواطئة، قصدا أو مصادفة، مع أعداء الثورة مصادرة الربيع، لكنها سرعان ما عجزت. ليس من السهل مصادرة ربيع مثل الربيع العربى، ربيع محفور فى القلوب والنفوس مثلما هو قائم على الأرض وفى الجبهات. لا يمكن أحد أو جهة أو جماعة أن تصادر ربيعا صنعته شعوب بإرادتها وأيديها، بعرقها ودمها.
الحياة – لندن
عبده وازن