لا يملك المراقب للنشاط الثقافى فى مصر خلال الأسابيع الأخيرة إلا أن يؤخذ بهذا الحنين لماضى مصر قبل ثورة 23 يوليو الذى عبر عنه الاحتفال بذكرى ثورة ١٩١٩. كان الاحتفال فى معظمه أنشطة تولتها منظمات المجتمع المدنى فى مصر، ولم يكن للدولة والمؤسسات المرتبطة بها الدور الأساسى فيه. احتفلت بهذه الذكرى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والجامعة البريطانية فى مصر، وبعض الأحزاب السياسية الأقرب لليسار، وباستثناء المجلس الأعلى للثقافة والذى يجعله تهميش الثقافة والمثقفين فى السنوات الأخيرة أقرب إلى مؤسسات المجتمع المدنى، فقد كان احتفال المؤسسات التى تتحسس رغبات الحكومة باهتا للغاية كما هو الحال فى جامعاتنا الحكومية، بل قد توارى فى هذه الأجواء احتفال حزب الوفد ذاته بالمناسبة، والتى أحيا ذكراها فى مقره وفى احتفال نظمه فى مركز مؤتمرات بالمنارة والذى حرص منظموه على أن يشيروا أن بعض حضوره كان من وزراء الحكومة. فما الذى يعكسه هذا الاحتفاء بأحداث مر عليها قرن من الزمان. تكشف كل هذه الأنشطة عن حنين طاغ لدى قطاعات واسعة من النخبة المثقفة فى مصر لثورة يتمنون لو كان ما دعت إليه يتحقق على أرض الواقع. ويستعرض هذا المقال بعض أسباب هذا الحنين.
أسباب الحنين
تملك المحتفلين بثورة مارس ١٩١٩ حنين إلى زمن الفعل الشعبى. زمن كان الشعب فيه يقوم بالفعل، يتخذ المبادرة، ويمارس الضغوط على من كانوا يملكون زمام الأمور ليجبرهم على الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه والسماح لهم بالذهاب إلى مؤتمر السلام فى فرساى ليعرضوا فيه قضية استقلال مصر، ويضغط على الزعماء السياسيين لكى يتوافقوا على موقف مشترك للتعامل مع العدو المحتل، بل ويلجأ بعض شبابه للعمل المسلح ضد قوات الاحتلال وضد من يتصورون أنه يناهض الإرادة الوطنية من المصريين. هذا الحنين لدور الشعب كفاعل هو رد بالغ على هؤلاء الذين يصمون المصريين بالسلبية والخنوع أمام أصحاب السلطة، وهو احتجاج على تهميش الشعب فى عهود لاحقة. بل ويصل الفعل إلى حد أن يتظاهر الفلاحون أمام بعض قصور قادة الوفد فى صعيد مصر، وعندما يلومهم البعض أنهم يحتجون فى مواجهة من يقودون الثورة، فإنهم يقولون لهم: نحن طلاب خبز.
ويتملك المحتفلين بذكرى الثورة حنين إلى قيم هذه الثورة من تطلع لدستور يصون الحريات ويفصل بين السلطات، ويضع أساس قيام حكم مدنى، ولوطن يتسع لجميع من يعيشون على أرضه أيا كانت انتماءاتهم الدينية وتوجهاتهم الفكرية، وإلى علاقة بالغرب المتقدم تقوم على رؤية صحيحة للتفاعل المثمر بين الثقافات الذى لا يلغى احتفاظ كل منها بخصوصيتها واعتزازها بتراثها، كما أنه حنين كذلك لمثل تلك النخبة المدنية التى أبدعت خارج السياسة فى جميع فروع الأدب والعلم والفن والمعمار.
طبعا لم تتحقق كل قيم هذه الثورة خلال السنوات التى حكمت فيها نخبتها السياسية من ١٩٢٤ وحتى ١٩٥٢. لم تنتج ثورة ١٩١٩ نظاما برلمانيا مستقرا. حزب الأغلبية الذى قاد النضال لتحقيق أهداف هذه الثورة لم يحكم أكثر من سبع سنوات ونصف طوال ذلك العهد شبه الليبرالى الذى عرفته البلاد خلال ثمانية وعشرين عاما، فقد كانت مصر تحكم خلال ثلاثة أرباع تلك الفترة بأحزاب الأقلية التى تستند إلى إرادة الملك فؤاد ومن بعده ابنه فاروق. ولكن تلك طبيعة المثل النبيلة التى ترفعها الثورات، فلا يؤدى فشل الثورات فى الوصول إليها إلى تواريها، ولكن ربما يتزايد التمسك بها رغم الإخفاق، لأن الشعوب تعرف بالتجربة أن العيش فى ظل نظم تعادى هذه المثل يجعلها أكثر تشبثا بها؛ لأنها تدرك أن التضحية بها لا يعوضها بالضرورة الكسب الذى يمكن أن تحصل عليه بالانتصار لمثل أخرى مغايرة.
***
وقد برزت مظاهر الحنين للمجتمع الذى ارتبط بثورة ١٩١٩ فى السنوات الأخيرة فى أعمال فنية عديدة، مثل فيلم حسن ومرقص، والمسلسل التليفزيونى حارة اليهود، وأعمال أدبية أخرى استرجعت صورة ذلك المجتمع أو رسمت البعد السلبى لغياب هذا الانسجام والتلاحم بين أبناء الوطن على اختلاف معتقداتهم الدينية ومذاهبهم الفكرية. تذكر كثيرون وجود القيادات الوفدية المسيحية والمسلمة جنبا إلى جنب، ودور رجال الأعمال والمثقفين والفنانين والفنانات اليهود فى نهضة مصر الاقتصادية والفنية، كما تذكروا أيضا نشر رسالة إسماعيل أدهم «لماذا أنا ملحد» فى ١٩٣٧ والذى لم يلاحق بسببها، ولم تؤد من ناحية أخرى إلى انتشار الإلحاد فى مصر. ألح الحنين لذلك المجتمع بعد تكرار الاعتداءات فى السنوات الأخيرة على كنائس المسيحيين، وعلى مسلمين مصلين فى المساجد، وبعد أن دفع مفكرون وأدباء ثمنا لأفكارهم التى ضاقت بها بعض الصدور، وتراوح هذا الثمن من التعرض للاغتيال إلى حظر نشر أعمالهم.
كما ضربت نخبة مجتمع ثورة ١٩١٩ نموذجا فى الفهم الصحى للعلاقة بالغرب المتقدم. بعضهم كانوا تلاميذ محمد عبده الذى زامل جمال الدين الأفغانى وشارك معه فى ريادة حركة الإصلاح فى العالم الإسلامى، والبعض الآخر تخرج من الأزهر أو تلقى تعليمه الأولى على يد شيخ أزهرى فى كتاب، ومع ذلك امتلكوا كلهم معرفة عميقة بالغرب المتقدم، ولم يجدوا فى نهاية الأمر صعوبة فى أن يكون طريق التقدم الذى يقترحونه لمجتمعهم قائما على الانتهال من نهر المعرفة الحديثة فى الغرب والاعتزاز بميراث حضارة بلادهم وبكل مكوناتها الروحية، دونما تعصب ضد الغرب أو تنازل عن مطلب الاستقلال الوطنى، ولا غفلة عن ضرورة تنقية التراث مما قد يجعله عقبة أمام التقدم المنشود.
***
ومما يلفت النظر فى هذه الاحتفالات أن الذى حظى بنصيب الأسد من الإشادة والتمجيد كان هو النخبة المدنية لمجتمع ثورة ١٩١٩ أكثر من نخبتها السياسية، رغم أن الفوارق لم تكن حاسمة بين الفريقين. فقد امتلك ساسة مصر فى العهد شبه الليبرالى ثقافة عميقة ولغة عربية فصيحة وحبا للفن. فهم الذين رعوا محمد عبدالوهاب وأم كلثوم. كما أن بعض شخصيات النخبة المدنية قد انخرط فى العمل السياسى بل وتولى بعضهم مناصب وزارية، ولكن لم تتوقف تلك الاحتفالات كثيرا عند سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد بقدر ما توقفت عند طه حسين وتوفيق الحكيم وسلامة موسى وعباس العقاد، وعند أحمد شوقى وحافظ إبراهيم ويوسف وهبى وسيد درويش وبديع خيرى ونجيب الريحانى ومحمود مختار. هؤلاء كانوا روادا بكل معنى الكلمة، كل فى مجاله، فى الفكر والمسرح والشعر والموسيقى والنحت والتصوير. ولم تقتصر ريادتهم على مصر ولكنهم كانوا أعلاما لمجالات الإبداع هذه على امتداد كل من الوطن العربى والعالم الإسلامى. لا أبالغ فى القول بأن أحدا من خلفائهم لم يصل إلى إنجاز فى مجاله يقترب مما حققه أى من هؤلاء.
هل يعنى الاحتفاء بثورة مارس ١٩١٩ التنكر لإنجازات ثورة يوليو ١٩٥٢.
وقد جرف الحنين لمجتمع ثورة ١٩١٩ البعض لكى ينسب كل ما أحاق بمصر من صعوبات وابتعاد عن قيم العهد شبه الليبرالى إلى ثورة يوليو. فهى فى رأى بعضهم انقلاب وليست ثورة، رغم أن ما ينتقدونه فى تراث يوليو من إصلاح زراعى وتأميم وصعود للطبقة الوسطى هو الدليل على أنها ثورة. وذهب آخرون ممن يعادون كل ما ارتبط بيوليو من عداء لإسرائيل ومناصرة للثورات العربية إلى القول بضرورة وقف الاحتفال بثورة يوليو، الاكتفاء بعيد ثورة ١٩١٩ كعيد قومى لمصر، رغم أن القراءة الصحيحة للتاريخ تثبت أن يوليو هى النتيجة المنطقية لإخفاق ثورة ١٩١٩ فى تحقيق أهدافها من جلاء المحتل وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. ظهر الضباط الأحرار على مسرح الحياة السياسية المصرية وقوات الاحتلال تربض بامتداد الضفة الغربية لقناة السويس وباب التفاوض للجلاء مغلق بقرار زعيم الوفد فى سنة ١٩٥١ بإلغاء معاهدة ١٩٣٦ التى وفرت لهذه القوات غطاء قانونيا، كما أن زعيم الوفد الذى كان قد ألف الحكومة فى سنة ١٩٥٠ لم يمكث فى منصبه مدته الدستورية إذ أقاله الملك فاروق فى أعقاب حريق القاهرة فى ٢٦ يناير ١٩٥٢ ودعا لتولى الحكومة من بعده أربع رؤساء وزارات تعاقبوا واحدا وراء آخر خلال الشهور الست التى انصرمت منذ سقوط حكومة الوفد حتى بداية الإطاحة بالحكم الملكى فى يوليو، وتراوحت مدة الحكم خلال تلك الفترة من أربع شهور إلى يوم واحد. طبعا تنكر نظام يوليو لقيم الديمقراطية الليبرالية التى رفعتها ثورة ١٩١٩، وحلت نخبة التكنوقراط من العسكريين والمدنيين محل نخبة رجال القانون والإنسانيات، واتسع نشاط الدولة فى المجال الاقتصادى ولفظت يوليو الرأسمالية وتبنى خطابها مفردات الفكر الاشتراكى. طبعا يوليو١٩٥٢ هى نقيض مارس ١٩١٩، ولكن إعمال المنطق الجدلى يدعونا إلى ابتكار نموذج تلتقى فيه الحرية بالعدالة الاجتماعية. وهذا هو التحدى الفكرى والعملى الذى يمكن أن يكون حصادنا النافع من هذا الحنين لثورة مصر الأولى فى القرن العشرين.
أستاذ علوم سياسية بجامعة القاهرة