أتاها صوته هادئا عبر الأثير يعتذر بلطف عن أنه لا يحتاج إلى شراء شاليه فى قرية كذا بالساحل الشمالى، شجعها لطفه على أن تلح أكثر وأن تستعرض أكثر المزايا المتعددة لموقع القرية وسمعة الشركة والشروط الميسرة للتعاقد.. بل إنها مضت خطوة أبعد ولامست حدوده الشخصية حين أضافت ــوهى لا تعرفه ــ إن مثله يحتاج إلى أجازة يبعد فيها عن الزحام والتلوث ويعيش أياما بين زرقتين: زرقة البحر وزرقة السماء. وعلى عكس ما توقعت لم يصدها محدثها بل تسامح مع تطفلها حين قال لها إنه لا يفضل الانتماء لعائلة الساحل الشمالى. استفز برده فضولها لكنه قطع عليها الطريق واعتذر بأن لديه على الانتظار مكالمة أخرى.
***
وضعتها مكالمة هذا الشخص الغريب فى حالة لم تعتد عليها من قبل، عاملها بلين وتجاذب معها أطراف الحديث، لم يصدها كما يفعل الآخرون فور أن قدمت له نفسها بل بدا وكأنه يحاول أن يقنعها بأسباب رفضه. حين ورد لفظ «الآخرون» فى حوارها الداخلى أحست بانقباض، لا بل بالإهانة فالكل يتعامل معها كشخص غير مرغوب فيه ومنهم من يزيد فى خشونته. عندما عملت بال « كول سنتر» كانت مثل هذه المواقف تؤلمها بشدة، وفى بعض الأيام غادرت عملها وقد عقدت العزم على ألا تعود إليه أبدا ثم عادت مرغمة. أحلامنا تبدأ كبيرة ثم تتواضع إلى أن تصبح على مقاس واقعنا، هذه هى القاعدة. صحيح أن الواقع قد يرتفع بسقف الطموح ليلامس الحلم أو حتى يتجاوزه، لكن هذا هو الاستثناء، والاستثناء لا يقاس عليه.
***
كانت كخريجة لأحد المعاهد الهندسية تتوقع أن يكون لمستقبلها الوظيفى علاقة من أى نوع مع طبيعة دراستها، ثم اكتشفت أن الأصل فى الأمور ألا تكون هناك علاقة. هى فى الأساس لم تكن تعرف ما هى المتطلبات الوظيفية للعمل فى ال «كول سنتر »، وعندما عرفت هذه المتطلبات فإنها كانت أبعد ما تكون عن سماتها الشخصية، تحتاج الوظيفة إلى شخص جرئ مبادر متكلم لبق، وهى على النقيض من ذلك تماما خجولة مترددة منطوية تغرق فى شبر مياه كما يقولون. فى كل المرات التى اجتازت امتحانا مكتوبا وكانت العلاقة مباشرة بينها وبين الورق تفوقت، وفى كل المرات التى تعرضت لاختبارات شفوية وتوسط علاقتها بالمذكرات ممتحن أو أكثر تعثرت. تخصصها الهندسى أيضا ساعدها على أن تختزل علاقاتها مع الآخرين إلى الحد الأدنى، تجلس إلى المكتب وأمامها جهاز كومبيوتر فتروح ترسم على شاشته خطوطا بالطول والعرض ويتملكها شغف شديد وهى تتخيل أن هذه التصاميم ستأوى بشرا وتحوى أثاثا وتضج بالحياة. تحب أن تصمم للآخرين بناياتهم وتحب جدا أن يعمرونها لكنها تهرب من ملاقاتهم، لذلك حين كادت تضعف وتلحق بصديقتها الوحيدة التى اختارت تخصص الهندسة المدنية قاومت وتركتها تذهب وحدها، أما هى فتخصصت فى مجال العمارة لتبعد عن عالم المقاولات. تبتسم وهى تتذكر كيف نشرت بين الجميع أن صلاة الاستخارة هى التى حسمت تخصصها فى مجال العمارة، وفى الواقع فإنها لم تقل إلا نصف الحقيقة فقد أدت فعلا صلاة الاستخارة لكنها لم تتوصل لشىء، كانت نيتها مبيتة لتواصل الحياة داخل قوقعتها ولا تسمح لأحد أن يثقبها مهما كان الإغراء. ثم بعد كل هذه المعافرة مع الناس والنفس تلتحق بعمل كل صنعته الكلام؟!
***
فى المرة الأولى التى اتصلت فيها بأحدهم لتسوق أحد أنظمة البطاقات الائتمانية تلجلجت وتلعثمت واضطربت ولم تنطق جملة واحدة مفيدة على بعضها، وجدت نفسها لا تذكر شيئا من دروس الدورة التدريبية التى تلقتها تمهيدا ل تسلم العمل، تحولت ذاكرتها فى لحظة إلى صفحة بيضاء لم يمسسها سوء، كيف يبدأون المكالمة؟ نعم نعم.. آلو آلو، جاءها رد جهورى من الجانب الآخر: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مين؟ يا للمصيبة ماذا تقول له ومن هى.. ليس مطلوبا منها أن تقول له من هى، المطلوب فقط أن تقول له ماذا تعرض، المفروض ألا يظهر له منها إلا اسمها مجردا تماما كما لا يظهر لها منه إلا الرقم، أى أن مجهولة تتصل بمجهول لتعلن عن بضاعة لا يريدها ولا هى متأكدة من مواصفاتها. هى تعتز بقدرتها على أن تكظم مشاعرها لكنها انفجرت فى الضحك وقد بدا لها الموقف كله عبثيا. بمثل هذه السخرية بدأت علاقتها بوظيفتها ولم تنس هذه البداية قط، هى لم تنس أيضا أنها تلقت أول لفت نظر لها فى هذا اليوم.. فضحكتها كانت مجلجلة. لماذا لا يرى زملاؤها فى العمل ما تراه.. يتلقون كل صباح قائمة الأرقام المطلوب الاتصال بها، ويستقبلون الجفوة والصد بروح رياضية.. لا بل ويلتمسون العذر للمشتركين بعد أن زاد الأمر عن حده وأصبحت أرقامهم مشاعا، وفى نهاية الشهر يصرفون رواتبهم دون تذمر. هم لا يروْن ما تراه لأنهم ليسوا هى ولا هى مثلهم.
***
وحده هذا المشترك الغريب هو من أشعرها بآدميتها ووحده هو من كانت تريد لو تطول مكالمته، أما مع الآخرين فإنها تتعامل كما لو كانت رسالة مسجلة على هواتفهم تكرر نفس المضمون بنفس الألفاظ وبنفس الملل واللامبالاة.. ترى كم عمره؟ ماذا يعمل؟ هل هو أب أم جد أم هو...أعزب؟ أف لهذا الخط الذى لم يسرب لها من المعلومات ما يكفى، والرجل صوته محايد يصلح لشاب أربعينى كما يصلح لشخص ناضج فى الخمسينيات أو أكثر. عجبا لك وما شأنك به؟ لمجرد أن أحدهم ترفق بك فى مكالمة دامت ثوان تصنعين قصة ورواية؟...أقنعت نفسها ألا غرابة فى الأمر وأن الشخص المختلف يفرض نفسه تماما كما أقنعت أهلها زمان بموضوع الاستخارة. أخرجت تليفونها ونقلت عليه رقم المشترك وكان رقما مميزا ثم حارت فى الاسم الذى تسجله به وبعد تردد قصير سجلته باسم «هو». وبين الحين والآخر عندما كان يضيق صدرها بخشونة المشتركين وانتقاداتهم اللاذعة كانت تأخذ شحنة من صوته تعيد بها إنسانيتها إلى منسوبها الطبيعى، تضع رقمه عامدة على قائمة الأرقام التى تتصل بها لتروج تبرعا خيريا أو برنامجا سياحيا أو نظاما جديدا لاشتراك التليفون أو..أو، وكان «هو» كعادته يعتذر بأدب ويبرر اعتذاره بأسباب وجيهة لكن لا يبدو أنه قد تعرف يوما على صوتها، وهذا يصيبها بغصة.