حينما تكون الرؤية واضحة أمامك، يمكنك التمييز بسهولة بين الحق والباطل، بين الخطأ والصواب، على الأقل من منظورك الفردى، فيكون أى انحراف عن جادتى الحق والصواب بمثابة عصيان على تلك الرؤية وتمرّد غير مقبول. فإذا كانت نشأتك بمؤسسة تعزز من قيمة الانضباط والالتزام فى وجدانك، فإن درجة التسامح مع ذلك الانحراف تكون فى أدنى مستوياتها.
الطريق الذى سلكته مصر للإصلاح الاقتصادى والاجتماعى تم بلورته فى صورة رؤية استراتيجية للتنمية المستدامة 2030، والتى قامت فى كثير من تفاصيلها على رؤية لمصر خلال 50 عاما تم إعدادها من قبل مجموعة من الخبراء فى العام 2007، وأشار السيد رئيس الوزراء إليها فى حديث تلفزيونى غير بعيد. تقوم الأسس التمويلية لإنفاذ تلك الرؤية على بسط سيطرة الدولة على ثرواتها المختلفة، وخاصة أصولها من الأراضى والموارد الأساسية. يعترض هذا المصدر تحديدا العديد من صور التعديات على أراضى الدولة، وتجريف الرقعة الزراعية، والعدوان على نهر النيل، وسرقة التيار الكهربائى، وبخس حقوق الدولة فى تعاقدات ظالمة تهدر خيراتها.. إلى غير ذلك من تحديات يتم استهدافها دون مواربة أو تهاون منذ عام 2014.
***
استشعر الجميع غضب السيد رئيس الجمهورية من التعديات التى عاينها بنفسه وهو فى طريقه إلى محافظة الإسكندرية يوم عاشوراء الماضى، لحضور افتتاح وتدشين عدد من مشروعات البنية الأساسية، وعلى رأسها تطوير محور المحمودية. كان الغضب الرئاسى ممتزجا بمرارة من يشعر أن بعض التعليمات والأوامر الحاسمة لا تجد طريقها إلى التنفيذ، لأسباب لا تخلو من التراخى أحيانا، ومن عدم اعتناق عدد كبير من المواطنين لرؤية الإصلاح والتنمية على وضوحها بالنسبة للحكومة والقيادات أحيانا أخرى.
الفجوة بين مستهدفات التنمية وبين المواطن العادى كبيرة، وقد ساهم فى تعميقها غياب أى دور للأحزاب السياسية على الأرض، وتبنّى معظم وسائل الإعلام لرسائل أحادية الاتجاه، بينما يريد الإنسان السوىّ أن يستمع إلى رأى ورأى مخالف حتى يثق فى محتوى الرسالة ونزاهتها، علما بأن الجنس البشرى قد تجاوز منذ قرون الحاجة إلى التأكيد على أن وجود رأى مخالف لا يعنى فساد التجربة بل يعززها!
إذا تحوّلت المشروعات الكبرى إلى مشروعات وطنية بمعنى الكلمة، فإن الدعم الشعبى لها يضفى عليها حرمة خاصة فوق حرمة القانون والقرارات السيادية، يجعل الانقضاض عليها بمثابة انتهاك لأحلام المصريين. هذا ما تبنته القيادة السياسية لدى القيام بمشروعات تطوير قناة السويس بداية من المجرى الملاحى، وحتى إقامة منطقة اقتصادية كبرى متعددة الجنسيات. لا يمكن أن يستمر هذا النمط من الشحن المعنوى فى صورته المركزية المستندة إلى رصيد من شعبية الرئيس، والذى أشار فى حديثه الغاضب إلى أنه مستعد لاستنفاده ثمنا رخيصا للثبات على الحق وعدم المساومة بمقادير البلاد. انفتاح الأفق السياسى يجعل المواطنين أكثر اشتباكا مع واقعهم، أكثر انحيازا لرؤى الإصلاح حتى وإن اختلفوا معها عبر منابر ديمقراطية، تقر فى النهاية بحق الأغلبية فى اتخاذ القرار، وحق الأقلية فى مناقشته ونقده. تماما كما يشتبكون بقوة مع مباريات كرة القدم ــ ضعيفة المستوى مع الأسف ــ والتى استعادت عرشها فى نسق اهتمامات المواطنين على حساب المشاركة السياسية، مترجمة ذلك فى مشاركة محدودة فى انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة.
***
تراكم الفساد فى كثير من المحافظات وتحوّله إلى هيكل مؤسسى فى بعضها، جعل من الصعوبة بمكان تنفيذ أوامر الإخلاء والإزالة دون مقاومة تتعدى فى عنفها وقوتها أى صورة تقليدية لمقاومة المجرمين لنصوص القانون، ذلك لأن نسبة لا بأس بها من تلك المخالفات قد نشأت فى الأصل مستفيدة من تشابك الغابة التشريعية الحاكمة لنقل وإدارة وتوثيق الأصول من جهة، وإلى غياب أى صورة من صور الرقابة الشعبية المحلية من جهة أخرى، وإلى مركزية بعض الملفات من جهة ثالثة. أذكر أن بعض الأراضى المملوكة للدولة فى إحدى محافظات الصعيد قد تم الإبلاغ عن التعديات عليها بصفة متكررة لا تخلو من الإلحاح، وقد كانت وعود إطلاق الحملات تأتى باستمرار لكن شيئا لا يحدث على الأرض، حتى اتسعت رقعة التعديات لتأكل ثلث الأرض وتحول دون استغلالها سواء للإنتاج الصناعى أو بغرض إقامة تجمعات سكنية لخدمة أهالى المنطقة. هذا نموذج واحد فقط كنت شاهدا عليه لتعطيل موارد الدولة على الرغم من تكرار الإبلاغ عن التعديات والتصعيد بشتى الصور؛ وهناك نماذج أخرى إيجابية كانت تتحرّك فيها قوات الأمن لإزالة التعديات فى حلوان ومسطرد وغيرهما مهما كان شكل المقاومة من أصحاب تلك التعديات.
لكن آلة التخطيط لنهب ثروات مصر واستحلالها لا تتوقف لحظة واحدة! ولا يمكن أن يتم مواجهتها عن طريق رد الفعل. بل إن تغليظ العقوبات ونزول قوات الجيش إذا لزم الأمر (كما أشار السيد الرئيس فى حديثه الأخير) لابد أن يكون حاضرا طوال الوقت. ولابد أن تعمل الأقمار الصناعية وفرق المسح لخدمة هذا الغرض مهما كانت التكلفة، فالعائد على إقامة دولة القانون لا يقدّر بالمال، والثروات المستهدفة على مدار الساعة أكبر من أن تترك بغير رقابة.
القيود التى تواجه القطاع الخاص فى استغلال الأراضى المملوكة له ملكية مستقرة موثقة بسبب تعسف المحليات، وتعدد اشتراطات التراخيص وتضاربها، ورسوم وإتاوات التحسين.. هى ذاتها التى تواجه الهيئات والمؤسسات المملوكة للدولة، لكنها أبدا لا تواجه المخالفين الذين يسلكون طرقا موازية خلفية، لا تعرف القوانين ولا تحترم الدولة. استمرار المخالفين فى غيهم واتساع رقعة المخالفات رغم إعلان الحرب عليها من قبل مؤسسة الرئاسة ذاتها لا يعنى إلا شيئا واحدا؛ هؤلاء يقبلون هامش المخاطر الكبير لأنهم يحققون مكاسب أكبر، يراهنون على التصالح مع الدولة، يراهنون على ضعف المفاوض الحكومى وانهزامه المتكرر أمام محاميهم ومديريهم الحاصلين على تعليم أفضل نسبيا، أو هم يراهنون على طول الأمد والبيروقراطية وتقلّب القيادات التنفيذية بما يخدم قضاياهم. على أن كثيرا من الرهانات تقوم على وجود نائب يمثل المصالح فى البرلمان، بما يفسّر ارتفاع تكلفة الكرسى فى عدد كبير من الدوائر الانتخابية، ولا عزاء للمواطنين.
***
إذن نعود إلى قانون الرسائل المشوشة الذى تناولته فى مقال سابق بهذه المساحة المحترمة، فتلك رسالة مشوشة جديدة تجعل من صاحب الحق غريبا مطاردا من القانون ورجاله، حتى يزهد فى الاستثمار الشرعى الملتزم بحق الدولة وضرائبها، وتجعل من واضعى اليد أصحاب حقوق ومصالح، ثم هم بعد أصحاب استثمارات قامت بالمخالفة على أراض لا يملكونها.
أنحاز بقلمى إلى نداء السيد رئيس الدولة وإلى تحذيراته التى انتظر صداها فى كثير من مناحى الحياة ونظم الإدارة والحكم. لا أنتظر فقط أن تلهب تلك التحذيرات مكاتب السادة المحافظين ورؤساء الأحياء لمدة أسابيع أو أشهر، فيتحركون فى بعض الملفات القديمة لإزالة التعديات هنا وهناك، ثم سرعان ما تعود المخالفات على نحو أشرس لتعويض خسائرها المؤقتة. بل أنتظر أن تفهم الرسائل الرئاسية على نحو صحيح من الجميع، وأن تساعد مؤسسات الدولة المواطنين على قيادة التغيير والإصلاح والمشاركة فيه عبر مختلف القنوات. فحينما قال الرئيس أنه يريد أن يستفتى المواطنين.. قرأت من خلف السطور رغبة صادقة فى استدعاء الشعب إلى الملعب وقد خلا والحمد لله من التهديدات الأمنية العنيفة للجماعات الإرهابية، وبقى أن يعود المواطن لممارسة دور إيجابى فى قيادة التغيير وتحمّل أعبائه طائعا دون ضغوط.