مصر بعد محمد على باشا - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر بعد محمد على باشا

نشر فى : السبت 31 أكتوبر 2020 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 31 أكتوبر 2020 - 8:50 م

ضرب مرض الشيخوخة محمد على باشا فى سنواته الأخيرة، فكان الحاكم الفعلى للبلاد وقتها ابنه إبراهيم باشا والذى كان المرشح الأول لخلافة أبيه، ولكن مرض إبراهيم بالسل وتوفى قبل أبيه بعدة أشهر! ولما كان الفرمان العثمانى فى ذلك الوقت يقضى بأن يتولى أكبر أبناء الأسرة العلوية حكم مصر (لا أكبر أبناء الوالى)، فقد انتقل الحكم إلى عباس حلمى الأول بن طوسون بن محمد على فى أغسطس 1848.
على العكس من عمه وجده، كان عباس حلمى ضعيف الشخصية، محدود الطموح، قليل الاهتمام بالشأن العام، ولذلك فقد قضى معظم الوقت فى قصوره الرئاسية بعيدا عن الشعب. ترجح المصادر التاريخية أيضا أن عباس لم يكن يكنّ الاحترام لجده وعمه، فكانت جنازة محمد على باشا متواضعة مقارنة بمكانته، ولم يتم فيها دعوة الكثير من سفراء وقناصل وممثلى البعثات الدبلوماسية كما كان يقضى العرف فى تلك الفترة، فدفن محمد على فى مراسم غير صاخبة وأصبح عباس حلمى هو حاكم البلاد لسنوات قليلة قبل أن يتم اغتياله فى قصره بمدينة بنها عام 1854، أى بعد خمس سنوات ونص فقط من توليه الحكم!
***
رغم طموح عباس حلمى المعلن وسعيه إلى التنمية الداخلية من ناحية والتخلص من النفوذ الفرنسى وإعادة التقرب من الباب العالى من ناحية أخرى، إلا أنه وعلى أرض الواقع لم يحقق الكثير لمصر، ليس فقط بسبب قصر مدة حكمه، ولكن أيضا بسبب ضعف شخصيته كما أشرنا أعلاه.
تراجعت كل ملامح النهضة المصرية التى تحققت خلال عهد محمد على، فتم إغلاق العديد من المصانع والمدارس، كما لم تحظ البنية التحتية للبلاد والمشاريع القومية إلا باهتمام هامشى من الباشا الجديد، ورغم ذلك فيرى البعض أن ما قد يحسب له هو سعيه إلى تمصير الدواوين الحكومية والتخلص من النفوذ الأوروبى فيها وخصوصا الفرنسى، بينما يرى البعض الآخر أن هذا التمصير لم يكن إلا سياسة عشوائية تخلصت من الخبراء الأجانب الذين كانوا قد أتوا فى عهد محمد على باشا وساهموا فى تطوير ونهضة البلاد! لم يتم استثناء أى أوروبى من الاستبعاد سوى البريطانيين، الذين تقربوا من عباس حلمى وأقنعوه بأن يستمروا فى بناء الطرق وخطوط السكة الحديد لتسهيل تجارتهم إلى الأراضى الهندية.
كان عباس باشا شديد القسوة على عامة المصريين، وفى عهده تم تعديل قانون العقوبات ليتم تغليظها، ولكن كما كان الحال فى عهد سلفه، لم تطبق جل هذه القوانين سوى على الضعفاء وانكوى منها عامة الشعب!
كذلك فلم يتمتع عباس حلمى بعلاقات مميزة مع باقى أفراد الأسرة العلوية، فقد كان دائم الارتياب منهم، وخوفا من منافستهم له على السلطة، قام بنفى معظمهم إلى أوروبا والسودان والأستانة. هذا وقد تأرجحت العلاقة من الخلافات الشديدة بين عباس حلمى والباب العالى وخاصة فى ظل رفض الأول تنفيذ فرمان الأخير بخفض تعداد الجيش المصرى لضمان السيطرة على مصر، إلى التآلف من جديد مع اندلاع حرب القرم بين العثمانيين والروس. فقام عباس حلمى بإرسال جيش مصرى قوامه 20 ألف جندى لمشاركة الجيش العثمانى فى الحرب، ثم توفى عباس حلمى فجأة بعد اغتياله فى رواية على يد حراسه بإيعاز من الباب العالى، وفى رواية أخرى فقد كانت مؤامرة مدبرة عليه من الأسرة العلوية، وفى كل الأحوال فلا يمكن الحديث عن أى أثر حقيقى تركه عباس فى مصر خلال سنوات حكمه القليلة!
***

بعد اغتيال عباس باشا، تولى سعيد باشا بن محمد على باشا الحكم وهو فى الثانية والثلاثين من العمر. كان سعيد قائدا فى البحرية المصرية، كما كان مقربا من والده، وكان قد مكث فترات طويلة فى فرنسا، مما جعله يحاول إعادة عصر نهضة أبيه مرة أخرى فاعتمد سعيد باشا استراتيجية تكونت من 5 محاور:

المحور الأول هو إعادة هيكلة ودعم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية للبلاد. ولعل أبرز إنجازات سعيد فى هذا الإطار هو حصوله على إذن من الباب العالى ليكون والى مصر هو المختص باختيار القضاة مما عزز استقلال القضاء فى البلاد. كذلك فقد استحدث سعيد نظاما للمعاشات وذلك للموظفين المتقاعدين، وهو كان البداية الحقيقية لنظام المعاشات المعمول به حتى الآن.
أما المحور الثانى فقد تمثل فى إعادة تطوير الجيش المصرى بعد سنوات من إهمال عباس لهذا التطوير. وقد شارك الجيش المصرى فى عهده فى حربين الأولى فى حرب القرم إلى جانب العثمانيين، والثانية فى المكسيك إلى جانب الفرنسيين.
المحور الثالث تمثل فى تعزيز علاقات مصر بالأقاليم التابعة لها وتحديدا السودان والحجاز.
فيما كان المحور الرابع مستندا إلى إعادة العلاقات التحالفية مع الدول الأوروبية وفى ذلك فقد كان سعيد باشا منحازا لفرنسا على حساب بريطانيا عكس سلفه!
وأخيرا فقد تمثل المحور الخامس فى إعادة الاهتمام بمشاريع البنية التحتية وأهمها مشاريع السكة الحديد وإصلاح ميناء السويس وتطهير ترعة المحمودية وإنشاء شركتين واحدة للملاحة النيلية والأخرى للملاحة البحرية، كما أعاد سعيد باشا سياسة النهضة التعليمية التى كان قد بدأها والده قبل عدة عقود.
لعل الإنجاز الأهم لسعيد باشا كان بدء حفر قناة السويس، التى كانت واحدة من أهم المشاريع العملاقة فى التاريخ المصرى الحديث، بحيث أنها جعلت لمصر أهمية استراتيجية كبرى، وهو الطريق الملاحى الذى مازال يفيد التجارة العالمية بأثرها حتى اللحظة. ورغم ذلك فقد كان تنفيذ المشروع نفسه يحوى الكثير من السلبيات وأهمها قطعا كانت بداية مصر عهد من الاستدانة الكبيرة من الدول الأوروبية وتحديدا فرنسا وإنجلترا، مما أضعف من القرار المصرى أمام هذه الدولة وحولها إلى دولة تابعة، كما كان الاستعانة بالفلاحين لبناء القناة مؤثرا وبشدة على الثروة الزراعية لمصر طوال مدة الحفر، هذا بالإضافة أن القناة جعلت مصر من تلك اللحظة فصاعدا مطمعا للقوى الأوروبية!

ولكن كانت السلبية الكبرى من وجهة نظر المؤرخين، هى أن القناة وعائداتها وإدارتها كانت وبشكل حصرى للفرنسيين والبريطانيين، ولم تستفد مصر كثيرا من عائدات قناة السويس سوى بعد تأميمها عام 1956 فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر. هذا وبالإضافة إلى ذلك فقد أصبحت شركة قناة السويس هى الحاكم الفعلى لمصر، فقد تدخلت فى شئون الحكم دون مقاومة تذكر من سعيد باشا!
ورغم هذه السلبيات جميعا، فقد كان حكم سعيد باشا فى النهاية محاولة جادة بل وناجحة فى بعض الأحيان لاستعادة أمجاد عهد محمد على باشا واستكمال النهضة المصرية التى عطلها عباس حلمى، فقد عادت مصر إلى مكانتها الإقليمية واستكملت مشاريعها القومية، ولكن كما كان الحال فى عهد محمد على باشا، فقد كان ذلك مجددا على حساب فلاحى مصر الذين دفعوا أثمان باهظة من حياتهم وحياة أسرهم ثمنا لهذه النهضة، ويبدو أن هذه معضلة ارتبطت بالنهضة المصرية طوال تاريخها الحديث!

لم يمهل القدر سعيد باشا الكثير، فقد أصابه المرض وهو فى الأربعين من العمر، ولم ينجح علاجه فى أوروبا فعاد ليتوفى فى مصر قبل أن يكمل عامه التاسع فى الحكم، لتبدأ مصر مرحلة جديدة من تاريخها فى عهد الخديوى اسماعيل بن سعيد بن محمد على.

أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر