في كثير من المناسبات الخاصة نجد أحدهم يطلب من الحاضرين أن يصلّوا على النبي فيفعل الناس دون تردد، ثم يطلب منهم أن يزيدوا النبي صلاة فلا يمانعون، وهذا يحدث بشكل طبيعي ومن غير افتعال ويتجاوب معه الناس دون مشاكل، فلماذا إذن حين أصدر وزير الأوقاف قرارًا بالصلاة على النبي اختلف الناس في تجاوبهم مع هذا القرار؟ اعتبر البعض أن القرار بدعة لا أصل لها ولا أساس، فلا يوجد في صحيح الدين ما يوجب تخصيص خمس دقائق للصلاة على النبي بعد الانتهاء من أداء صلاة الجمعة، ورأى البعض الآخر أن القرار يخلط الدين بالسياسة والأصل أنه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة بالفعل وليس على طريقة الرئيس السادات الذي نادى بهذه المقولة وكان أول المنقلبين عليها، ووجد البعض الثالث أن التوجيه بالصلاة على النبي لمدة خمس دقائق فيه انتقاص من محبة المصريين لنبيهم وتقديرهم له وكأنهم يحتاجون أحدًا ينبههم لواجبهم تجاه النبي، أما البعض الأخير فإنه تعجّب من الناقدين لقرار الصلاة على النبي ومن تلك الحساسية المفرطة من كل ما له صلة بالدين في الوقت الذي نشهد فيه "تحلّل القيم والأخلاق في المجتمع". وبحكم اختلاف طريقة تلقّي الناس للقرار الحكومي، لم يشارك نفرٌ من المصلين في حملة الصلاة على النبي يوم الجمعة الماضي، بينما شارك فيها آخرون، أما الأئمة فوق المنابر فمعظمهم امتثل وقليل منهم مَن امتنع عن الصلاة على النبي خوفًا من العقاب.
• • •
من بين كثير مما كُتِب في هذا الموضوع أعجبني جدًا بوست طويل وضعه على صفحته الصديق العزيز الدكتور كمال مغيث تحت عنوان "الصلاة على النبي في مصر"، وعندما يكتب كمال مغيث- المتخصص في علم التربية- حول مثل تلك الموضوعات فإن كتابته تختلف عمن سواه، فلديه مخزون من التراث الشعبي الذي يختلط فيه الغناء بالأمثال العامية بالشعر بالأدب بالسياسة ليُخرِجَ لنا النصّ في شكل سبيكة لا أجمل منها ولا أمتن. أما حين يكون مزاج كمال مغيث رائقًا ويقرّر أن يغنّي إحدى أغنيات الثنائي الشيخ إمام عيسي والشاعر أحمد فؤاد نجم فلابد أن يتسلطن المستمعون. وقد استمعتُ إليه وهو يغني بصوت جميل أثناء السفر الطويل في أوتوبيسات الهيئة القبطية الإنجيلية لحضور ندوات عديدة في وجه قبلي أو بحري، وتمثّلته تمامًا وأنا أستمع لنفس الأغنيات من الدكتور حسام عيسي- أستاذ القانون القدير ونائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي الأسبق- على شاطئ نهر السين في باريس أثناء ندوات مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة مع مركز بحثي فرنسي مناظر (السيداچ)، فالثنائي له نفس الذائقة الفنية ونفس خفة الظل أما الاتجاه السياسي فمختلف، بقي حسام عيسى على إيمانه العميق بالناصرية، وتحوّل كمال مغيث إلى ناقد كبير للتجربة الناصرية بعد ١٩٦٧، لكنهما معًا يصنعان حالة حلوة أو حاجة حلوة. بعد ذلك نعود لبوست كمال مغيث على الفيسبوك وماذا قال فيه.
• • •
ركّز كمال مغيث على مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في الحياة اليومية للمصريين المسلمين العاديين، وعلى تحوّل تلك المكانة إلى طقوس وعادات وتقاليد متوارثة تبدأ بالصلاة على النبي مع بداية يوم العمل وعند استهلال كل حديث على سبيل التبرّك، وتنتهي بالتغنَي به وبصفاته الكريمة شعرًا ونثرًا، وتمرّ بالاحتفال العظيم بمولده كما لا يحتفل به أي شعب آخر من شعوب العالم. ولأن النبي حاضر بهذا الحب وهذه السلاسة والكثافة والاستمرارية في حياة المسلمين المصريين- استنكر كمال مغيث أن يُوّجَه الناس بقرار من وزير الأوقاف للصلاة على النبي لمدة خمس دقائق بعد أدائهم صلاة الجمعة. وبهذا الشكل فإن البوست الذي كتبه كمال مغيث يمثّلني كما أنه يمثّل كل المتفاعلين معه الذين بادروا بمشاركته على نطاق واسع حتى بلغ عدد المشاركات ٨١ مشاركة- حتى يوم الاثنين الماضي-مما يعني الاتساع الكبير في دوائر ذيوعه وانتشاره وتناقله. لماذا أحببنا ما كتبه كمال مغيث المتخصَص النابه في علم التربية؟ أحببناه لأنه صادق ومرئي وملموس بشكل يومي، وعلى المستوى الشخصي استثار هذا البوست الجميل ذهني فوجدتني أتتبع تعاملات المصريين مع النبي ومع الصلاة على النبي، فإذا بها كثيرة جدًا جدًا. يستخدم المصريون كلمة "والنبي" في مناسبات عكس بعضها البعض دون أن يلاحظوا وهذا لا يهم، المهم هو ما يتضّح من تشبّع الوجدان الشعبي بحب النبي واستحضار ذكره في كل مناسبة، فيتساءل المصريون "والنبي إيه؟!" وذلك كنوع من التشكك في نوايا المتحدّث وعدم التأكد من أنه جاد في الوفاء بوعده، ويؤكدون على النقيض من ذلك صدق كلامهم بقولهم "والنبي لاعمل كذا وكذا" كنوع من تطمين الآخرين على صدق النيّة والالتزام بالتنفيذ. ويقول المصريون "والنبي أو والنبي ومَن نبّى النبي نبي" على سبيل الوعيد والتهديد، كما أنهم يُستَخدَمون "والنبي" في جملة هدفها المكايدة كما في قول محرم فؤاد "والنبي لنكيد العزّال". ويقول المصريون "والنبي" على سبيل الاستعطاف والرجاء لتليين معارضة الطرف الآخر وفي بعض الأحيان يزيدون الضغط فيقولون "وحياة النبي اللي زرته أو نفسك تزوره أو سايق عليك النبي"، وفي أغاني الحب كثير من لوذ المحّب بالنبي في مواجهة تدّلل المحبوب فيغني كارم محمود "والنبي يا جميل حوش عنّي هواك"، ويغني عبد المطلب "والنبي يا جميل أنا مش قدّك". ولأن النبي هو مضرب المثل في كمال الخُلُق وتمامها يقول المثَل الشعبي "وما كامل إلا محمد". ثم إن المصريين يتبركّون بإطلاق اسم "محمد" أو "محمدين" على الطفل الأول حتى لو كان اسم الأب نفسه محمد، وهذه الأسماء من الوفرة والانتشار بحيث لم يعد اسم محمد يكفي أبدًا للتعريف بالشخص فهناك ملايين ممن يحملون اسم محمد وبالتالي عادة ما يكون التمييز باستخدام لقب الجد البعيد. وفي نطاق عائلتي هناك واقعة طريفة حيث أطلق جدي اسم محمد على أبي، ثم أطلقه بعد ذلك على عمّي دون أن يدرك تبعات ذلك، وفين وفين عندما تم فك الاشتباك بين الاثنين، وما أدراك ما صعوبة فك الاشتباك. وفي قاموس الأسماء المصرية توجد أسماء كثيرة تتبرّك بالنبي مباشرة كاسم حسَب النبي وعبد النبي وعبد الرسول أو بشكل غير مباشر كاسم عبد رب النبي، ورغم الأصوات التي تحذّر وتحرّم بعض هذه الأسماء على أساس أن العبودية لله وحده، لكن المصريين يتصرفون بفطرتهم وعلى طبيعتهم ولا يدور في أذهانهم شيء مما يفكّر فيه المحرّمون، فالإيمان مناطه القلب.
• • •
نحن نحّب النبي ونحّب أثر النبي ونحّب آل بيت النبي، ونعبّر عن هذا الحب بأكثر وسائل التعبير وضوحًا، نرجو شفاعته ونراه في أحلامنا وبعض رؤانا على سبيل التمنّي أكثر منها حقيقة. نصلّي عليه في صلواتنا الخمس وكلما ورد اسمه في جملة مفيدة. نذهب إلى مسجده في المدينة ونعافر لنفوز بموضع قدم عند روضته الشريفة، ونذهب إلى استانبول ونقف في طابور طويل انتظارًا لنظرة نلقيها على أشيائه: شعره وختمه وسيفه… في متحف توب كابي، فمن يخاطب بالضبط قرار وزير الأوقاف؟