من أهم ما يشغل الأفراد والمجتمعات فى هذا العصر قضية الأمن والاستقرار، فهى من الأولويات القصوى، والأساسيات الكبرى، فبدون الأمن لا تستقر للحياة حال، ولا يهنأ للإنسان عيش، ولذلك فإن تحقيق الأمن الفكرى ضرورة كبرى، لحماية العقول من بواعث الإجرام والاعتداء وانتهاك حقوق النفس والغير، وهى مسئولية وطنية مشتركة.
ومن مجالات الأمن الفكرى القراءة والتثقيف، فإن القراءة والتثقيف مرتبطان ارتباطا وثيقا بالأمن الفكرى، إيجابا أو سلبا، بحسب مضمون المحتوى والمعلومات المقروءة، وبحسب نوع الثقافة التى يتلقاها الفرد، ولذلك فإن العناية باختيار الكتب وتحرى الثقافة الإيجابية مطلب مهم لكل قارئ.
وإذا كان الإنسان يبحث عن أفضل طبعات الكتب وأجودها تحقيقا وإخراجا ليضيفها إلى مكتبته الشخصية فإن البحث عن أفضل الكتب من جهة المضامين والمعانى والأفكار والثقافة الإيجابية لا تقل أهمية عن ذلك، بل أهميتها تفوق، لأن هذه المعانى هى جوهر العملية المعرفية وبناء العقول وتطويرها.
وقد أشار التربويون إلى أن وظائف القراءة واسعة متعددة، تبدأ بعملية إدراك المقروء إدراكا لفظيا منطوقا، تليها العملية العقلية الذهنية لإدراك المعانى التى توحى بها الألفاظ، وما تشتمل عليه من التفكير والاستنتاج، ثم عملية انفعال القارئ بالمقروء وتفاعله معه بالرضا أو الإعجاب أو السرور أو الحزن أو غيرها، ثم انتقل الأمر إلى استخدام المحتويات المقروءة لمواجهة المشكلات والتعامل مع المواقف الحياتية.
فتأثير القراءة كبير فى حياة الأفراد والمجتمعات، وإن تحقيق الأمن الفكرى بقراءة الكتب الهادفة والمعلومات النافعة وسيلة مهمة، ليهتدى القارئ من خلالها إلى العلوم النافعة والمعارف الإنسانية المفيدة والثقافة الحضارية الإيجابية، التى تجعله فردا واعيا فى مجتمعه، ذا تفكير سليم، ومنطق صحيح، وعلم واسع.
وأهداف سامية، ومن واجب الأسر تنشئة الأبناء على حب القراءة، ليس فقط من أجل جودة الإلقاء وسلامة الأداء فقط، وإنما لتوسيع مداركهم وتزويدهم بالقيم الإيجابية التى تنمِّى فيهم كل ما يساهم فى أمنهم الفكرى، فيكتسبوا القيم الدينية الوسطية والقيم الأخلاقية والوطنية والمعرفية فى مختلف المجالات، فيزداد مستوى وعيهم ونضجهم، ويكونوا أدوات بناء لأوطانهم، يساهمون فى رفعتها ونهضتها.
ويعرفون فى المقابل الأفكار السلبية والأخطار التى تحدق بهم وبوطنهم، فيكونون فى حصانة فكرية من ذلك، ويكونون دروعا لوطنهم يصدون عنه كل فكرة تروج للإرهاب والتطرف والخراب والدمار، وقديما قيل: عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه، ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه.
ومن متطلبات الأمن الفكرى فى ميدان القراءة التمييز بين المحتويات المفيدة والضارة، فإن من الحقائق الواقعية التى يعلمها الجميع أن التنظيمات المتطرفة وبالأخص تنظيم الإخوان حاولت غزو العقول فكريا بطرق شتى، ومن وسائلهم تأليف الكتب التى تخدم أجنداتهم، ليحاولوا بذلك اصطياد العقول، وغرس القناعات الفاسدة فيها، وكم من شاب وقع فى مصائدهم من هذا الطريق.
ومن الثقافات السلبية التى ينبغى الحذر منها كذلك فى ميدان القراءة ثقافة الثورات، بما فى ذلك الثورات المسلحة، التى تروج لها كثير من الكتب الدينية والسياسية والفكرية والفلسفية، تحت شعارات وتنظيرات براقة، تحاول دس مفاهيم مغلوطة للشباب باسم الحرية والفكر والتغيير والبطولة، ليكونوا رءوس حربة ضد دولهم، وما إن يقع الشاب فريسة هذه الأفكار حتى يصبح عنصرا هداما فى مجتمعه، لا همَّ له إلا نشر فكره الثورى، وإقناع الآخرين به، واستغلال مواقع التواصل الاجتماعى لذلك، وإنشاء الحسابات الحقيقية والوهمية للتحريض والتأليب على دولته، وتشويه صورتها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد كانت هذه الأفكار من أكبر أسباب حدوث ما سمى بالربيع العربى، الذى ذهب ضحاياه آلاف الأرواح، ولا تزال بعض المجتمعات تكتوى بنيرانها إلى يومنا هذا.
ومع ثورة التقنيات والاتصال الحديثة أخذت القراءة أشكالا متعددة، وأصبح الفضاء الإلكترونى ساحة كبيرة مليئة بمختلف أنواع المواد المقروءة، بما فى ذلك الكتب المصورة رقميا بالصيغ المختلفة والتى من أشهرها صيغة «pdf».
وتمتلئ هذه الساحة بما هب ودب، فكثير من الكتب الممنوعة هى متوافرة فى العالم الافتراضى، بما فى ذلك كتب الإرهابيين على اختلاف توجهاتهم، مما يمثل ذلك تحديا أمام بناء العقول وتحصينها، ومن أهم الوسائل لمواجهة هذه الثغرة التى فرضتها العولمة الإلكترونية نشر الوعى، وتحصين العقول بالثقافة الإيجابية والمفاهيم الصحيحة، وتوعيتها بالأفكار السلبية، وتنمية التفكير النقدى الذاتى لديها.
كما أن ذلك يحتم التوعية بمفهوم القراءة الصحيحة، وأهدافها السامية، وطرق التعامل الصحيح مع المعلومات، بما يشجع على التنمية المعرفية والإبداع العلمى وتنمية المهارات وتطويرها والتزود بكل نافع جديد، ويحفظ الأجيال من الأفكار السلبية التى تضر بهم وبمجتمعهم ووطنهم.
وإن العالم اليوم أكثر وعيا وإدراكا لخطورة المحتويات المقروءة الضارة مما مضى، وقد تجلى ذلك فى الجهود العالمية التى بذلت فى السنوات الأخيرة للحد من الغزو الإلكترونى للتنظيمات الإرهابية فى مواقع التواصل الاجتماعى.
والتى استغلت سلاح الكلمة لنشر التطرف فى العالم وتجنيد العقول، ما تسبب فى توسيع انتشار رقعة الإرهاب والتطرف من قبل هذه المنظمات الإرهابية التى اخترقت منصات الإعلام الافتراضى من بوابة حرية الرأى والتعبير، كما استغلت مواقع تحميل الملفات لنشر كتبها المليئة بالشبهات الإرهابية، تحت عناوين رنانة ومعلومات مشوهة مغلوطة.
إن القراءة ومصاحبة الكتب قيمة عظيمة، تبنى العقول، وتؤسس الحضارات، وتصون الأمن الفكرى، متى كان الكتاب جليسا صالحا للإنسان.
محمد أحمد الشحى
البيان ــ الإمارات