الموت البطىء لمتعة السفر - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 3:59 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الموت البطىء لمتعة السفر

نشر فى : الأحد 2 أغسطس 2020 - 8:20 م | آخر تحديث : الأحد 2 أغسطس 2020 - 8:20 م

تبدو الممرات الطويلة أكثر امتدادا وهى فارغة من ناسها.. والقاعات والمساحات الواسعة التى بنيت خصيصا لتستقبل أعدادا أكبر من القادمين أو المارين.. الأنوار معتمة والمساحات المظلمة فى تلك المبانى الممتدة، أكثر من المضيئة.. والناس تمر كالأشباح دون كثير من الصوت أو الضوضاء والمايكروفونات لا تردد سوى إرشادات التباعد ولبس الكمامات والالتزام.. المشهد قريب من تلك الأفلام الهوليودية، أفلام الخيال العلمى التى ما إن تخرج من أجوائها حتى تتصور أنك فعلا رحلت إلى عالم بعيد وعدت منه.. تبدو مشاهدها مختصرة على كواكب أخرى أكثر بعدا من أبعد ما تصل له مخيلتنا..
***
بعضهم التزم بالكمامات كما المطلوب وآخرون وضعوها كجزء من الديكور فنحن وهم وكلنا شعوب تعرف كيف تتحايل على الأنظمة والقوانين بل يسمى البعض ذلك «شطارة»!
***
اليافطات للمحلات الكبيرة هى الأخرى مطفأة والمطاعم والمقاهى اقتصرت على البسيط منها لتقديم لزوم ما يلزم فى مثل هذه الأجواء. لا هذه ليست مشاهد من فيلم صاغته عقلية شخص يملك من الخيال ما لا حدود له، هى واقع جدا. تمر تلك الفتاة والفتى متسلحين بالأوفراول الأبيض كالممرضين فى مراكز الفحص وقد لبسوها زيادة فى الحذر..
***
لا تزال مكبرات الصوت تكرر، تطلب وتناشد وتحذر بأن لبس القناع ليس أمرا اختياريا بل إجباريا وأن التباعد كذلك.. تلتصق العائلات ببعضها ملتزمة التباعد وكأنه تباعد عن الآخر وليس عن أفراد العائلة رغم أن الإحصائيات تؤكد أن الانتشار جاء نتيجة عودة اللقاءات والحفلات والعزومات العائلية..
***
لا مجال إلا أن تلتزم كرسيا خاليا بين الشخص والآخر، هنا أيضا تسقط العائلات فى فخ أنه لن يهاجم نفس الدم! أمر محير كيف يرفض حتى المتعلمون فهم العلم ويعودون دوما إما لنظريات المؤامرة للتخفيف عن عدم التزامهم أو لكونهم يفهمون أكثر.. الجاهل عدو نفسه حقا قبل أن يكون عدو الآخر.
***
تحولت المطارات إلى مدن أشباح فيما أريد لها أن تكون واجهات لإمبراطوريات السياحة والترفيه وحتى فترة بسيطة تحولت إلى شكل من أشكال التنافس بين الحكومات والدول.. هذا المطار أكبر وذلك يملك أكبر عدد من المحلات التجارية المتنوعة وثالثا بداخله مدن للترفيه لكل فئة عمرية وأماكن استرخاء وصالونات حلاقة وتجميل و.. هى مدن بكاملها تشكل إحدى أيقونات ثقافة الاستهلاك التى أتاها الفيروس بالضربة الموجعة ولكنها ليست القاتلة فما زال أمازون يتوسع ويوصل من الساندوتش إلى السيارات الفاخرة، إذن فلا تزال تلك الثقافة حية ترزق..
***
يتقدم موظف المطار فيطلب أن يتم التقدم التدريجى نحو الطائرة وعلى الرغم من محاولاته فإنه فى آخر الأمر يتخلى عن مسئوليته «الصحية» ويعود لدوره كموظف مسئول عن إدخال الركاب إلى الطائرة حتى تقلع فى موعدها المحدد.. يتحدث بلغته التى لا يفهمها كثير من الركاب مع زميلته وكأنه يقول لها كل ما يهمنى أن أخلص منهم جميعا وأعود للمنزل سليما حتى لا أعدى أفراد أسرتى..
***
صبرهم جميعا يقل ككمية الأكسجين من خلف القناع الذى يحجب جزءا كبيرا من الوجه ومنه أهم ما فيه وهو الابتسامة وهى المفتاح الحقيقى خاصة فى مثل هذه اللحظات التى يشوبها الخوف والحذر فى مقابل استهتار الكثيرين..
***
«الرجاء ترك مسافات بينكم عند دخول الطائرة» تردد المضيفة المسكينة وهى تصرخ من خلف قناعها الأزرق الذى حاولت شركة الطيران أن تجعل منه جزءا مجملا وليس مقبحا لواجهاتها.. لا حياة لمن تنادى هى أو حتى الآخرون، فلم يتوقف التدافع وكأن الطائرة ستقلع دونهم والصراخ لم يتوقف والأطفال تمرغ نفسها على الأرض التى مرت بها مئات الأحذية من مختلف بقاع الأرض..
***
تحاول المضيفة وتكرر نداءها بكل اللغات التى تعرفها، متصورة أن العائق فى الالتزام هو اللغة أو الفهم، فيما أن الأمر كانوا قد درسوه فى الصغر وهو أن اللبيب بالإشارة يفهم.. ربما كان اللبيب كذلك فى ذاك الزمن الآخر الذى ولى دون عودة.. الآن، هنا، اليوم لا يوجد من يفهم حتى الذى يقرأ أو يحفظ فهو لا يفهم أو لا يريد أن يفهم!!
***
فى محاولاتها الأخيرة قبل إقلاع الطائرة تردد «لقد عملنا على أن يتغير الهواء فى الطائرة كل ثلاث دقائق محافظة على صحة مسافرينا»... لا أحد يسمع أيضا ولا أحد يفهم ما معنى ذلك بالنسبة لهم.. تقلع الطائرة من العتمة وتحلق فى سماء تضيئها الكثير من نجوم الصيف المعجونة بالضباب.. تصل بعد ساعات إلى مطار آخر ليس أقل عتمة وفراغ ولكنه أكثر فى فعل اللامبالاة أو ربما الاستهتار رغم أن اليافطات والإشارات والإرشادات كلها، نعم كلها، تقول عكس الممارسات والسلوكيات.. يتراكم الجمع عند استلام الحقائب ويصل الأمر إلى شكل من أشكال المعارك اللفظية وانعدام التهذيب.. يتطلع ذاك المتكرش عند الزاوية ويرفع قناعه بعض الشىء وكأنه يريد أن يسمع صوته لهم كلهم «إلى ما عنده كورونا هلق بيصير عنده كورونا».
***
مرة أخرى ظلموه فى مجتمعات أتقنت فن اللاأخلاق واللامبالاة والتفاخر البالى..

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات