منذ بداية مهرجان الجونة السينمائى قبل سبع سنوات، وعروض الأفلام القصيرة تلقى إقبالا ملحوظا حتى إن التذاكر تنفد سريعا وأحيانا يصعب الحصول على أماكن، وكان ذلك على عكس المتوقع، فعادة يظن الناس أن هذه النوعية من الأعمال ليست الأكثر جذبا. فى حين أثبتت التجربة أن الأفكار الفنية المبتكرة للأفلام القصيرة وقدرتها على الإيجاز تتماشى مع روح العصر ولديها العديد من المعجبين.
ومنذ العام الماضى، فى ظل حرب الإبادة التى يتعرض لها أهل غزة، قرر المهرجان تقديم نافذة خاصة على فلسطين، نتعرف من خلالها على أحدث إبداعات أبناء هذا الشعب الذى طالما استخدم السينما كوسيلة للبقاء والمقاومة وللحفاظ على الذاكرة وسرد حكاياتهم.
وخلال الدورة الأخيرة للمهرجان، تم تقديم أفلام فلسطينية قصيرة كانت من أروع ما تضمنه البرنامج، وعلى رأسها «أما بعد» للمخرجة مها الحاج الذى أجمع عليه الجمهور والنقاد، كما سبق أن حصد جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان لوكارنو في أغسطس الماضي.
• • •
شريط ناعم، إيقاعه هادئ، يحمل بداخله وجعا أبكى الحضور. سمعنا نشيجا فى القاعة هنا وهناك، مع اكتشاف قصة لبنى وزوجها الدكتور سليمان (محمد بكرى وعرين العمرى) اللذين اختارا العزلة داخل مزرعة صغيرة. نتابع الأحاديث التقليدية التى قد تدور بين زوجين يعيشان وحدهما على أطراف العالم، بعد أن كبر أبناؤهما. نظن أن التكرار نابع من زحف الروتين على حياتهما فلم يتبق لهما سوى تبادل الآراء حول مشاكل الأولاد وانتظار زيارتهم بصحبة الأحفاد. عجوزان يتناكفان برقة وأداء تمثيلى متميز. يعترضان على سلوك الابن وانشغاله عن زوجته التى لجأت لبيت أهلها غاضبة وعلى تمرد الابنة التى لا تفكر فى الارتباط وتريد الدراسة فى الخارج، ونتنقل على هذا النحو بين التفاصيل التى تخص خمسة أولاد وأبا وأما يحملان همهم رغم نضجهم ومكانتهم الاجتماعية.
وفجأة يصل شخص غريب ليكسر جدار الوحدة، يقول إنه صحفى كان زميلا لابنهما الأكبر فى الدراسة ويرغب فى إجراء مقابلة معهما حول آثار الحرب. يهربان منه فى البداية، ثم يستقبلانه على العشاء بسبب سوء الأحوال الجوية، وهنا تكون المفاجأة، ففى الواقع لا يوجد أبناء على قيد الحياة! ونشعر إلى أى مدى لا شىء من الممكن أن يخفف معاناة الفقد.
• • •
الفيلم تم كتابته في مايو 2023، ثم بدأ تصويره في فبراير من العام التالي، أي أثناء الحرب على غزة، في واد منعزل بين حيفا والناصرة، بمزرعة نائية، وقام مهندس الديكور بتحويل المخزن الموجود بها إلى منزل ترافقه موسيقى حزينة من تأليف منذر عودة.
اختارت مها الحاج، التى ولدت فى الناصرة عام 1970 ودرست الأدب الإنجليزى والعربى بالجامعة العبرية فى القدس، أن تصنع شريطا قصيرا، فى حين لفتت الأنظار بفيلمين طويلين فى السابق وهما «أمور شخصية» (2016) و«حمى البحر المتوسط» (2022). بطل هذا الأخير مؤلف سيطر عليه اليأس مثلها، مع الفارق أن الكتابة أنقذتها من الاكتئاب، أم الفيلم الأول فقد تناول علاقات زوجية مركبة بين شخصيات من أجيال مختلفة.
أيقنت المخرجة الموهوبة أن تركيز الفيلم القصير هو الأنسب لتكثيف قصتها، فجاء «ما بعد» مؤثرا للغاية، محملا بالمشاعر التى تصل بالحزن إلى ذروته، من دون ثرثرة أو سفسطة فارغة. وهو ما ميز الأفلام الفلسطينية القصيرة التى انتقاها المهرجان وكان معظمها إنتاجا مشتركا بين دول عربية وأجنبية، وفى كثير من الأحيان أخرجها فلسطينيون يعيشون فى الخارج أو تعلموا هناك، لكن ظلت قضايا بلادهم وأرض أجدادهم هى ما يؤرقهم.
• • •
عُرض مثلا ضمن برنامج «نافذة على فلسطين» فيلم «مفتاح» للمخرج ركان مياسى الذى ولد فى ألمانيا ويعيش حاليا فى بلجيكا. استطاع أن يطوع لغة المستعمر لخدمة قضيته، فالفيلم ناطق باللغة العبرية رغم أن الممثلين فلسطينيون، هم يجسدون أدوار مواطنين إسرائيليين تطاردهم أشباح من سكنوا المكان قبلهم. عائلة تسمع صوت مفتاح حديدى، وكأن هناك من يحاول فتح باب منزلهم ليلا. تطاردهم أرواح الفلسطينيين الذين احتلوا بيوتهم حتى تجعل حياتهم مستحيلة.
مرة أخرى، تسحرنا بلاغة الفيلم القصير الذى يقدم ما يريد أن يقوله فى 18 دقيقة، فمخرجو هذه النوعية من الأعمال يفضلون الذهاب مباشرة إلى الهدف. تتلاشى الفواصل بين الحقيقة والواقع، فالحكايات التى يرويها هؤلاء تشبه المنطقة التى جاءوا منها.
إبراهيم حنضل صور فيلمه فى مخيم لاجئين بيت لحم الذى يحيط به جدار الفصل العنصرى، حيث يقيم أبطال شريطه «فيلم قصير عن الأطفال»، وعددهم أربعة. يحاولون الوصول إلى البحر، بعد أن جمعوا ما يلزمهم من نقود وتواصلوا مع سائق التاكسى الذى يقل الزوار الأجانب إلى الشاطىء، لكن بالطبع لن يتمكنوا من ذلك. وبما أنهم تعودوا، رغم صغر سنهم، ألا يستسلموا للحصار الذى فرض عليهم، فقد لجأ أحدهم إلى التحايل على الواقع لكى يقضى وقتا ممتعا مع أصدقائه. قرر أن يضع قاربا مطاطيا أعلى سطح البناية ومن حوله شمسية ملونة لكى يمرحوا كما كانوا سيفعلون فى البحر، فالخيال البشرى غير محدود.. مرة يرفض الآباء فكرة موت الأولاد، ومرة يصور لأطفال بسطاء أنهم على شاطئ البحر!
وفى فيلم قصير آخر لسهيل دحدل بعنوان «خالد ونعمة» يحاول صبى بدوى فى العاشرة ومعزته الأثيرة نعمة، أن يساعدا العجوز «أبو مريم» على استعادة ذاكرته التى فقدها مع رحيل ابنته. وسهيل دحدل هو مخرج أسترالى من أصل فلسطينى، يعمل حاليا فى الجامعة الأمريكية بإمارة الشارقة ويهتم بتطوير رواية القصة الرقمية، خاصة توثيق قصص الفلسطينيين ما قبل النكبة. أما مايك الشريف، صاحب فيلم «مقلوبة» فقد استلهم موضوعه من رحلة والدته مع النزوح، بل جعلها تمثل فى الفيلم لأول مرة، بعد فترة تدريب دامت ستة أشهر، لكى تقوم بدور الجدة التى ترفض ترك بيتها حيث عاشت مع زوجها فى المهجر، والذى يسعى ابنها إلى بيعه. سئمت التنقل وهو ما نفهمه من الحوار الذى يدور بينها وبين حفيدتها خلال قراءتهما للفنجان.
مايك الشريف الذى ولد فى الكويت وهاجر إلى أمريكا فى مطلع التسعينيات مع حرب العراق الأولى يتحدث هو الآخر عن مشاعر الهجرة واللجوء والفقد. مثل غيره من أصحاب الأفلام القصيرة أوجز فأنجز.