«عدوية».. تريند ذلك الزمان! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الإثنين 6 يناير 2025 10:59 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«عدوية».. تريند ذلك الزمان!

نشر فى : السبت 4 يناير 2025 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 4 يناير 2025 - 7:40 م


(1)
مثل عديد المشاعر التى لا نجد لها تفسيرا أو تأويلا أو علة محددة، سادت حالة من الحزن العميق جدا بين كثيرين (أكثر مما توقعت) لدى إعلان رحيل المطرب الشعبى الكبير أحمد عدوية عن 79 عاما. «عدوية» عندى، وأتصور أنه كذلك عند أبناء جيلى من مواليد أواخر السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، يعنى ذكريات مبهجة وسنوات عذبة ومواويل وحكايات لا تنتهى، وأول إطلالة لأفلام السبعينيات الخفيفة المرحة.. يعنى بهجة وأفراح ولحظات مزاج وروقان، واستعراضات شهيرة فى أفلام تلك الفترة، وموسيقى قادرة على انتزاعك من أى حالة وقار مصطنع أو ادعاء سمت رسمى متكلف بلا داع!
كانت هذه هى الحالة التى أحدثها عدوية بأغنياته وإيقاعاته وطريقة أدائه! كشف الغطاء عن تناقضات شرائح واسعة جدا من المصريين (وبين الفئات المتعلمة والشرائح العليا من الطبقة الوسطى) بادعاء غير حقيقى وغير صادق إزاء أغنياته! فى الظاهر يتم إعلان رفض هذا اللون من الغناء وإطلاق عبارة «الفن الهابط» مع وصم هذا الفن وممثليه بكل ما تشتهى الأنفس من أوصاف استعلائية ورافضة ونابذة وعنصرية أيضا! فى الحقيقة؛ يكون عدوية نجم الأفراح والحفلات الأول، مخترقا كل الأستار والحجب ودرجات سلالم الصعود الاجتماعى والمادى بصورة غير مسبوقة!
«مزاج» مرتبط بتحولات متسارعة وعميقة عاشتها مصر من السبعينيات، ولم تعد بعدها كما كانت أبدًا.. كان صوت عدوية وأغانيه و«مواويله» أول تعبير وأصدق تمثيل لما طال شرائح واسعة من المصريين من هذه التغيرات والتحولات..
(2)
القصة هنا ليست رحيل مطرب شعبى حاز شهرة عارمة فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، وحقق انتشارا مذهلا وكاسحا ووصلت مبيعات شرائط الكاسيت (الوسيط المتداول آنذاك لتسويق وبيع الأغانى المسجلة) إلى أرقام غير مسبوقة ومتخطيا فى سنوات أواسط السبعينيات كبار المطربين والمغنين المعروفين، وعلى رأسهم عبد الحليم حافظ بذات نفسه! وبما مثل ظاهرة فنية وثقافية واجتماعية متكاملة الأركان! لا يمكن الحديث عن أى تاريخ اجتماعى أو ثقافى أو فنى من دون المرور عند محطة عدوية الأساسية والوقوف عندها كثيرًا!
ببساطة ودون أى محاولة للتنظير، أو ادعاء العمق والحكمة فإن ظاهرة أحمد عدوية فى الثقافة المصرية تمثل واحدة من تجليات التحولات المفصلية التى جرت منذ سبعينيات القرن الماضى، وظلت تمارس أثرها العميق حتى 2011 (هناك العديد من المقالات والكتابات المهمة التى حاولت استقصاء جوانب هذه الظاهرة وتحليلها إذا جمعت بين دفتى كتاب لخرجت فى مجلد ضخم وربما أكثر).
أحمد عدوية المطرب الشعبى الذى بزغت نجوميته وعلا صيته وأصبح «تريند» ذلك الزمان (سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى) هو تمثيل صادق وناصع لفئة/فئات واسعة من المصريين الباحثين عن الخلاص بطريقتهم، وبأسلوبهم وبعيدًا عن الثقافة الرسمية السائدة! من قلب الهوامش والأطراف وكسرا لقواعد اللعبة فى الصعود الاجتماعى عن طريق التعليم والكفاح الممتد لسنوات كى يجد لنفسه موضع قدم فى زحام مرير وخانق!
(3)
لم أكن مستوعبًا لهذا الأثر الكبير لعدوية إلا حينما قرأت ما كتبه الموسيقار الكبير هانى شنودة فى مذكراته التى صدرت قبل خمسة أعوام عن دار ريشة للنشر والتوزيع، عن قصة تلحينه لأغنية «زحمة يا دنيا زحمة» لأحمد عدوية وتنبؤه بالانتشار الكاسح لهذه الأغنية، يقول:
«ذهبنا لنجرى بروفة فى (استوديو 35) بالإذاعة. كنا نعزف مقاطع من الأغنية وعدوية يغنِّى، بينما موظفو الإذاعة يتجمهرون فى غرفة الكنترول؛ ليتابعوا ما يولد بالداخل، وكأنه شىء غريب وعجيب، وهو كذلك فعلاً؛ فقد كانت المرة الأولى التى يشارك فيها البيز جيتار والدرامز فى عزف أغنية شعبية». يتابع شنودة:
«أنا شُفت نجاح (زحمة يا دنيا) وهى بتتسجل من قبل أن تُطرح بالأسواق، وبعد أن حققت مبيعات خرافية جاءنى عاطف منتصر، كعادته، وقال لى: كان عندك حق يا هانى.. أنت عملت حاجة ما حصلتش فى تاريخ الأغنية الشعبية المصرية».
المؤكد أن تأثير زحمة يا دنيا كان أكبر من كونه شريط كاسيت حقق أعلى مبيعات فى مسيرة عدوية، لقد تحولت الأغنية إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية، واستخدمها الناس كوسيلة للاعتراض على أحوال المرور التى ساءت فى عهد الرئيس السادات، مع الزيادة السكانية، والهجرة المتزايدة إلى القاهرة، وغياب الأمن فى الشارع.
كان سائقو التاكسى يرفعون صوت الأغنية فى (كاسيتات) سياراتهم وهم يمرون أمام عساكر المرور والضباط فى الإشارات، ويستفزونهم وهم يغنون (مولد وصاحبه غايب)، الجملة فى حد ذاتها كانت أشبه بصفعة على وجه صاحب المولد الغايب أو المتغيب عن أداء دوره، ولهذا وبعد أسبوعين فقط من طرح الشريط بالأسواق وصلت تقارير للرئيس السادات بما يحدث فى الشارع، فأعلن إعادة الانضباط للشارع المصرى، وأمر بنزول حملات مرورية فى كل شوارع العاصمة لضبط حركة المرور، وإيقاف السائقين المخالفين.. كان السادات بهذه القرارات يعلن على الملأ أن المولد صاحبه حاضر ولم يغب، كأنه يرد على صرخة عدوية التى هزت الرأى العام». (ص 73، 74).