أعرف صديقة تعمل فى مؤسسة دولية تهتم بشئون اللاجئين واللاجئات وتسهر على راحتهم. بالأمس القريب كنا نتحدث عما يدور داخل معسكرات الإيواء، وروت لمحات مما يدور فى تلك المعسكرات. وبدأت بما يشغل اللاجئات واللاجئين أو حديثهم اليومى، فالكل أو معظمهم لا يرى أبعد من شأن يومه، ويعيش اليوم ساعة بساعة، وهم يسمعون قصص من سبقهم للجوء إلى الخارج، ويتناقلون ما يردهم من أخبار شحيحة، عن طرق المعاملة وأفضل بلد للجوء. ولكن هذا ليس بالأمر الهين، فهم يعلمون أن الخروج من معسكر إيواء إلى البحر، ثم عبور بعض البلاد الأوروبية بحثا عن بلد يؤويهم مسألة محفوفة بالمخاطر. وكم من أسرة تمزقت أوصالها وتفرقت فى البلاد وفقدت عزيزا أثناء تلك الرحلة. ثم أسهبت فى موضوع إدارة معسكرات اللاجئات واللاجئين وما يعانونه من نقص فى الموارد، والخدمات وأهمها التعليم. ثم قالت، يوجد نقطة عمياء لا ينتبه لها الكثيرون فى مسألة المعسكرات هذه، وهى دورة الإمدادات، ووجهة نظرها أن بعض الصعوبات اللوجستية فى توصيل الموارد ليست خالية من الغرض السياسى. ثم أضافت، نقص الإمدادات لاسيما الأطعمة كان وراء أكبر لجوء إلى أوروبا عام 2015، وهذا ما دفع مئات الآلاف للخروج فى نفرة كبرى لخارج المعسكرات، ثم عبور الدول والبحر المتوسط حتى وصل إلى قلب أوروبا نحو مليون سورى وسورية. وهو ما وصفته بهندسة إدارة اللاجئين واللاجئات التى تأتى أحيانا لصالح بعض الدول.
***
وبينما ينصب اهتمامنا على شئون الوطن والدول العربية، حكت صديقتى عن معسكرات للاجئين واللاجئات فى أماكن أخرى، ومنهم مئات الآلاف فى دول إفريقية عدة. ويبدو أنى أثقلت عليها بالأسئلة، فلقد استرجعت مواقف صعبة خزنتها فى الذاكرة أملا أن تتلاشى مع الوقت. وفوجئت بدموعها تنهمر بدون أن تفصح عما رأته. واحترمت رغبتها فى عدم استكمال الحديث وغيرت الموضوع، ولكنها عادت لتحكى ما عاشته فى معسكر بإحدى الدول الإفريقية، حيث تكلمت عن موضوع المرأة المحارب. وهو مفهوم لا يأتى إلا من باب شر. وإليك بعض تفاصيله. فبعض الجماعات المسلحة، لاسيما الإرهابية، تقوم على خطف الفتيات من المدارس، ويأخذونهن إلى معسكرات كسبايا بغرض تلبية حاجة المقاتلين. وهى عملية فى غاية الأهمية لضمان استمرار الجماعات المسلحة فى أداء وظيفتها. وإليك ما ينتج عن هذه العملية. تلد الفتيات أبناء لا يعرفون من هو الأب، وتتحول شخصيتها تماما، فهى تعرف أنها لم تعد مقبولة اجتماعيا بهذه الوصمة، وبالتالى لا تحاول الفرار والعودة إلى أهلها. وعند انكشاف أو هزيمة الجماعات، وتحرير الفتيات، يحاول بعضهن العودة بأنفسهن إلى معسكرات الجماعات المسلحة، لكيلا يتحولن إلى منبوذات اجتماعيا. والقليلات منهن تلجأن إلى معسكرات كالتى تديرها المؤسسات الدولية، وهن لا يعرفن ماذا يفعلن. وتقول المتحدثة بأن الفتيات فى الأغلب يتحولن لسلوك عدوانى تجاه كل شىء، فالكثيرات منهن يعشن فى ظروف فى منتهى القسوة، وكل همهن العيش ساعة بساعة.
الشاهد هو انفصال المختطفات من شخصياتهن الطبيعية وتحولهن إلى المرأة المحارب. وهى كما تقول المتحدثة، امرأة سحقتها الحرب الهجينة وحولتها لأداة لها وظيفة، تساهم فى استمرار الجماعات المسلحة. كما أن الأولاد المولودين نتيجة تلك العملية، الذين لا يعرفون أبا ولا أهلا، باستثناء الأم، إذا نجت وعاشت، يتحولون بدورهم لمقاتلين صغار السن، ناقمين على المجتمع، ولا يعرفون عن الحياة إلا ما خبروه من حرب العصابات، والتخفى من قوات الحكومات، والانقضاض بكل شراسة فى هجمات قاتلة، بعضها يطول معسكرات اللاجئين واللاجئات، والمؤسسات العاملة فيها. وهنا تروى المتحدثة بكل أسى عن زميلات قضين فى هجمات مماثلة. وهنا سألتها، لماذا لا تطلب نقلها إلى مكان آخر بعيد عن العمل الميدانى، فقالت، حاولت كثيرا ولكنها تعود من حين إلى آخر للعمل الميدانى، فهى تعرف قيمة ما تفعله لحياة اللاجئين واللاجئات. فقلت، وما هو الحل للمرأة المحارب، فقالت، توجد برامج لإعادة التأهيل، وهى أفضل الحلول المتاحة. ومنها على سبيل المثال، إعادة الفتيات إلى المجتمع بأسماء جديدة، ويعيشن فى أماكن جديدة بهوية جديدة، بعد التدريب لفترة على مواجهة الحياة بمفردهن. والبرامج تشمل إعادة تأهيل أطفال المعسكرات. لكن الجانب المظلم فى تلك الحلول التجريبية، هو الانتكاسة التى تحدث لبعضهن عندما يعدن للعيش فى المجتمع، بعد تجربة مريرة، ثم يختلطن بالمجتمع الطبيعى، ويفشلن فى الاندماج مرة أخرى.
***
اقتصاد الحرب الهجينة هذه قائم على قوانين خاصة، حيث الغاية تبرر الوسيلة، والهدف ليس الانتصار أو السيطرة، وإنما الاستمرار هكذا إلى ما لا نهاية. وميدان الحرب الهجينة لا يعرف أفكارا استراتيجية عميقة، ولكن تكتيكات سطحية بسيطة. فهو قائم على استمرار المواجهة لأن اقتصاد الحرب مربح. ولا مكان هنا للتفكير فى مستقبل بعيد. فالمهم الاستمرار. ولذلك تجد جماعات مسلحة لا تدرى ماذا تفعل بعد الوصول عنوة للحكم لفترة وجيزة. فتنقلب على بعضها البعض، وتحول البلد إلى حروب ومواجهات لا هدف منها إلا السيطرة. وبعد السيطرة لا يعرفون ماذا يفعلون، حتى يأتى تحول استراتيجى يأخذهم مثل الجراد للمحطة التالية، بدون تقدير لنتائج ما يفعلون، المهم الاستمرار فى الحصول على تدفقات الأموال. هذا وقد يظن البعض أن أطراف المعادلة هم الجماعات، والحكومات، والمجتمعات. وكأن المؤسسات الدولية العاملة، والإعلام الذى يصور، وشركات بيع السلاح، وبنوك غسيل الأموال، والأطراف الخارجية المستفادة لا دخل لها بالمشهد. ولذلك طرحت على صديقتى سؤالا، إذا كانت تجد مؤسستها جزءا من الحل أم جزءا من المشكلة؟ فقالت بحزم، إذا كنا جزءا من المشكلة فهذا لا يتم على المستوى الميدانى، لأن ما نفعله هو خدمة المواطنين والمواطنات من ضحايا الحروب ميدانيا، بينما لو تركناهم فسيكون لدينا مئات الآلاف من الضحايا يوميا، ثم ختمت بالقول بأن عدد اللاجئين واللاجئات فى العالم يزيد على 60 مليون سنويا، هل تتصور تركهم بلا مساعدة؟
60 مليون لاجئة ولاجئ سنويا يساوى تعداد دولة متوسطة الحجم أو عدة دول صغيرة! كيف يحدث هذا فى العالم؟ ولماذا؟ وأين؟ وماذا يحل بتلك الكتل البشرية التى تتنقل بتجربتها بين البلاد؟ لقد صنعت الأمم المتحدة شيئا فى منتهى الغرابة، حيث صنعت فريقا رياضيا من بعض اللاجئين ينافس فى أولمبياد طوكيو 2020، وهى المشاركة الثالثة على التوالى لمنتخب اللاجئين! علما بأن اللاجئين المشاركين فى المنتخب الأممى، هم من وصلوا لوجهته النهائية وليسوا القابعين فى معسكرات الإيواء. ومع كل التقدير للجهود الجبارة التى تقوم بها المؤسسات التى تخدم اللاجئين واللاجئات ميدانيا، وتحاول تذليل العقبات المعيشية لهم، هل نحن بحاجة لإعادة ترتيب الأولويات بحيث تكون الأولوية الأولى لحل النزاعات التى ينتج عنها لاجئون ولاجئات؟
باحث فى مجال السياسة والعلاقات الدولية