العام القادم تحفّه العديد من المخاطر والأزمات. من ناحية هناك أزمة الطاقة التى تضرب أوروبا على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، وتعد تلك الأزمة بانقطاع الكهرباء على مدينة النور باريس كما صرّح الرئيس «ماكرون» منذ أيام، كما تتسبب أزمة الطاقة الأوروبية فى إرجاء خطط التحوّل الأخضر بعدد من الدول وفى مقدمتها ألمانيا وفرنسا بعد الإعلان عن مد العمل بمحطات الطاقة النووية وعدم إيقاف محطات الكهرباء العاملة بالفحم بشكل نهائى فى الموعد المضروب سلفا.
من ناحية أخرى يشهد العالم أزمة كبيرة فى سلاسل التوريد نشأت عن تداعيات إغلاقات جائحة كوفيد ــ١٩ وعمّق من آثارها السلبية الحرب فى أوروبا وما نشأ عنها من حسابات المقاطعة السلعية المعقّدة التى أشعلت حربا اقتصادية كان من أبرز ملامحها أزمة الحبوب ووضع سقف لأسعار النفط الروسى وقطع روسيا عن نظام سويفت.. إلى غير ذلك من صور الارتباك الذى يدفع العالم كله ثمنا غاليا له فى هيئة موجات تضخمية عنيفة، ومحاولة ملاحقتها وكبحها برفع متتال فى أسعار الفائدة، كان النمو والتشغيل فى مقدمة ضحاياه وكانت الدول النامية ذات المديونية الخارجية الكبيرة الأكثر تضررا من ارتفاع تكلفة الدين وارتفاع فاتورة الواردات مقوّمة بالعملة الصعبة بكل تأكيد.
على مشارف عام جديد، انتشرت توقعات الركود للاقتصاد الأمريكى على نحو غير مسبوق وكأنه صار حقيقة وواقعا لا فكاك منه! وتمتد آثار الركود أو حتى التباطؤ فى الاقتصاد الأمريكى إلى مختلف دول العالم عبر قنوات العدوى المالية التى سبق تناولها فى هذه المساحة فى مقالات سابقة.
من المتوقع ألا تطول تلك الصدمة أمريكية المنشأ لأكثر من العام على غرار ما حدث مطلع التسعينيات من القرن الماضى، لكن طول وعمق تداعياتها يتوقفان على عدد من العوامل الأخرى أبرزها موقف الصراع الروسى ــ الأوكرانى، وتحديات اللاجئين، وتغيّر المناخ..
• • •
فى مصر ستكون أزمة الصرف الأجنبى فى مقدمة التحديات، وسيكون عبء الدين الخارجى ومتطلبات الاستيراد أكبر ضاغط على الصرف الأجنبى ومن ثم تتعرض السياسة النقدية فى مصر لاختبار صعب للغاية، خاصة أن معظم حلول الأزمة تكمن فى الاقتصاد العينى وليس النقدى.
التصنيع هو القطاع القائد للخروج من الأزمة، والحاجة إلى سرعة تعميق المكون المحلى وتوطين مختلف الصناعات تدعو صانع القرار فى مصر إلى دعم هذا التحوّل مهما ارتفعت تكلفته. صحيح أن ثمار هذا التحول لن تكون لحظية، ولكن نقطة البداية دائما ما تنتظر الظرف الملائم، وفى هذه الحال فإن أزمة الانكشاف الخارجى تعد ظرفا مثاليا لدعم التحوّل الصناعى بشتى السبل، وعدم التسرّع فى إلغاء مبادرات التمويل الميسّر للمشروعات الصناعية.
وعلى الرغم من تأخر ثمار التعميق والتوطين الصناعى نسبيا، فإن الإشارات الإيجابية التى يطلقها للمستثمر الأجنبى والمحلى ومؤسسات وجهات التمويل الدولية، تؤتى ثمارا عاجلة وتسترد الثقة فى قدرة الاقتصاد على التعافى المستقبلى من أية أزمات مشابهة وتعيد تقييم التصنيف الائتمانى لمصر والنظرة المستقبلية التى تحوّلت أخيرا إلى سالبة، لتصبح أكثر استقرارا وإيجابية. تنسحب الوفورات الإيجابية للتصنيع على الإنتاج الزراعى بكل تأكيد وإن كانت تعقيدات الشح المائى وانخفاض إيرادات المنتج الزراعى غير المصنّع تؤخر هذا القطاع الهام فى سلم أولويات الدولة.
كذلك يمكن الاستعانة بقطاع السياحة لتخفيف الضغط على الدولار الأمريكى فى الأجل القصير، نظرا لسرعة ومرونة إيرادات هذا القطاع الحيوى. لكن هشاشة الإيرادات السياحية، وسرعة تحوّل السائحين إلى وجهات بديلة فى وقت الأزمات أو الهجمات الإرهابية، تقلل من قدرة الخدمات السياحية على قيادة فترة الصمود والتعافى من الأزمات.
يرتبط قطاع الصناعة بشكل وثيق بقطاع النقل، إذ لا يمكن توطين الصناعة فى مناطق صناعية يعجز الأفراد والمواد الخام الوصول إليها. كذلك لا يمكن الاعتماد على الإنتاج الكثيف بغرض الإحلال محل الواردات والتوجّه للتصدير بغير بنية أساسية مؤهلة للنقل والشحن والتفريغ وسائر الخدمات اللوجيستية المتطورة التى أصبحت مظهرا مهما للاقتصاد العالمى الجديد. وقد حقق قطاع النقل خلال السنوات الأخيرة طفرة كبيرة يمكن الوقوف على أبرز ملامحها.
تقوم وزارة النقل بتنفيذ خطة لتطوير كل قطاعات النقل باستثمارات تصل إلى نحو 1.7 تريليون جنيه، تشتمل فى مجال الطرق والكبارى على إنشاء 7000 كم من الطرق الجديدة ليصل إجمالى أطوال شبكة الطرق الحرة والسريعة والرئيسة 30 ألف كم، وتطوير ورفع كفاءة 10,000 كم من شبكة الطرق الحالية وإنشاء 34 محورا جديدا على النيل؛ ليصل الإجمالى إلى 72 كوبرى ومحورا على النيل وإنشاء 1000 كوبرى علوى ونفق ليصل الإجمالى إلى 2500 كوبرى علوى ونفق على الشبكة.
وفى مجال السكك الحديدية تم إنشاء شبكة مصر للقطارات السريعة بإجمالى أطوال نحو 2000 كم وتطوير شبكة السكك الحديدية الحالية من خلال تطوير نظم الإشارات على 4 خطوط رئيسية بإجمالى 1900 كم وتطوير أسطول الوحدات المتحركة، من خلال توريد 260 جرارا جديدا وإعادة تأهيل 172 جرارا وتوريد 1300 عربة جديدة وتوريد 6 قطارات كاملة وتصنيع 1215 عربة بضائع، بالإضافة إلى تطوير المحطات والمزلقانات وتجديدات السكة، وذلك بما يحقق نقل 2 مليون راكب يوميا، بدلا من مليون راكب حاليا، و13 مليون طن بضائع سنويا بدلا من 4.5 مليون طن.
وفى مجال النقل البحرى، تسعى وزارة النقل إلى تحويل مصر إلى خلق محاور نقل ولوجيستيات تربط بين الموانئ البحرية والموانئ الجافة والمراكز اللوجيستية مثل محور «السخنة ــ الإسكندرية» وتم التخطيط وجارٍ تنفيذ أرصفة جديدة بأطوال 35 كم ليصل إجمالى أطوال الأرصفة نحو 73 كم تستوعب 370 مليون طن و22 مليون حاوية مكافئة.
• • •
يطول الحديث عن استثمارات الدولة فى قطاع النقل، وقد آن الوقت لحصاد ثمارها من خلال قيمة مضافة حقيقية تتمثّل فى إنتاج محلى لمنتج صناعى وزراعى وسياحى يتم إنتاجه وبيعه محليا وعالميا بكفاءة. وإذ تتجه مصر حاليا إلى إفساح المجال للقطاع الخاص ليضطلع بدوره الأصيل فى قيادة النمو الاقتصادى، ويمكن التأكد من هذا التوجّه من خلال مطالعة وثيقة ملكية الدولة التى صدرت أخيرا فى صورتها النهائية، فإن الكثير من مشروعات البنية الأساسية التى أقامتها الدولة يمكن أن تسمح للقطاع الخاص بالمشاركة سواء على مستوى الملكية أو الإدارة.
نجاح قطاع النقل فى تحويل صورة مصر إلى دولة تتمتع حركة التجارة فيها وعبرها بالمرونة والكفاءة، هو عنصر مهم لتعميق الإنتاج الصناعى والزراعى والحد من الاعتماد على الاستيراد فى مختلف مراحل الإنتاج، كون المدخلات المصرية ترتفع تكلفتها بشدة بسبب ارتفاع تكاليف النقل.
التحديات الكبرى التى يشهدها العالم اليوم هى السياق الذى يتعيّن علينا أن نقيم من خلاله جودة الأداء الاقتصادى المحلى، ومن ثم ضرورة تطعيم المجموعة الاقتصادية فى الحكومة المصرية بخبرات سبق لها التعامل مع أزمات مشابهة، وخبرت لغة العالم المتقدّم فى وضع ضوابط إدارة المخاطر بأسلوب مهنى مجرّب.