تمصمص أم آية شفتيها وهي تتذكر الأمنيات الكبيرة التي باعوها لها قبل السفر إلى أمريكا، قالوا لها في محاولة إغرائها بالهجرة لأمريكا أنها أرض الأحلام، لم يدركوا أن تعبير "أرض الأحلام" لا يجذبها لأن الأحلام لا تحمل معنى إيجابيا بالنسبة لها. منذ رحل زوجها وتحملت هي مسؤولية الولدين صارت أكثر أحلامها كوابيس. كانت تُلقي بجسدها المتعب على الفراش فإذا بكل الديون وأقاويل الجيران ومشاكل العمل تلاحقها وتذّكرها بأن الراحة رفاهية، ومثلها لا يترفه. آلمتها ساقاها بعد ١٢ ساعة كاملة من الوقوف في داخل العربة، تحملت وراحت تضرب ثمار البرتقال في الخلاط ثم تمد يدها بكوبين من العصير لزوجين أمريكيين وهي تُحدِّث نفسها بصوت خفيض: قال أرض الأحلام قال !
***
على خلاف كل أزواج من تعرفهم من نساء الأسرة كان زوجها رجلا بمعنى الكلمة، لا يضرب.. لا يسب.. لا يبتز ولا يلقي جزافا بيمين الطلاق . تحمّل مسؤولية البيت قدر استطاعته وساعدته بحب فيما يقصر عن تلبيته من طلبات. هل لأنه يختلف عن الآخرين خطفه الموت؟ تستغفر الله .. لكنها مقهورة فعيون الناس لا ترحم، تطاردها وتتمنى زوال النعمة عنها حتى إذا زالت فعلا صارت أم آية نهبا لكل من هب ودب. تتململ في انتظار زبون جديد وتتذكر أول مرة سمعت فيها عن أمريكا. كان ذلك أثناء الأجازة التي يقضيها منصور ابن عمتها في مصر، فمنذ هاجر منصور إلى أمريكا قبل سنوات طويلة وهو يأتي لزيارة الأهل على فترات متقطعة، قال لها إن هناك لا يتدخل أحد في حياة أحد لأنه لا وقت للفضول، وزاد أن هناك تقسيما محترما للعمل في شوارع نيويورك: الأفارقة يبيعون الحقائب والثياب والعطور، المصريون يحتكرون بيع الساندوتشات والعصائر، والآسيويون واللاتينيون يروّجون للسياحة .التعليم هناك أفضل، التنقل أيسر، الحرية أكبر، والشعور بالغربة لا موضع له فالكل غريب عن أرض أمريكا لكن بدرجات .
***
بدت لها دعوة الهجرة في أول الأمر نوعا من الانتحار إذ كيف تجر طفليها إلى المجهول وهما دون سن العاشرة ؟ منصور رجل ويستطيع أن يعمل في كل الظروف لكن ما بالها هي ؟ صحيح أنها تستعرض عضلاتها وتفخر بأنها بمائة رجل كي لا يطمع فيها أحد، لكن من داخلها كانت ضعيفة بل كانت مرعوبة من كل المحيطين بها، ترى هل يطمع فيها أيضا منصور؟ متى وكيف تتعلم الإنجليزية ؟ هل تبيع أساورها التي تدّخرها لعاديات الزمن؟ كانت الأسئلة في رأسها كثيرة، لكن الخناق كان يضيق عليها أكثر ومقاومتها تخور أكثر وأكثر. دون مقدمات وكمن يركب آلة الزمن لينتقل بها من عصر إلى عصر ركبت أم آية آلة "الأحلام" التي يقولون عنها وانتقلت بها مع طفليها من القاهرة إلى نيويورك .
***
على ناصية شارع برودواي الشهير وقفت أم آية في عربة لبيع العصائر، وقبل خطوتين منها كانت تقف عربة منصور تبيع ساندويتشات السجق والشاورما، الفارق بينها وبين منصور أنه كان يمتلك عربته أما هي فلا .
في يومها الأول زغللت عينيها أضواء المسارح والكافيتريات والمحلات، وفي عطلة نهاية أسبوعها الأول أخذتها قدماها إلى نهاية الشارع .. إلى ميدان التايمز فطاش صوابها .. كرنڤال من الألوان والأزياء والملامح عرفت بالتدريج إلى ماذا ترمز، شرح لها منصور معنى القبعة السوداء العالية والشعر الأسود المجدول، حكى لها عن تاريخ البشرة السوداء التي بدت لها غريبة في "بلاد بره" ، حدثّها عن الساري والكيمونو والبانشوه والشورت والجلباب القصير والطويل . ودت لو تجلس كباقي خلق الله على درجات السلم في الميدان وتنسى الدنيا وما فيها وود ذلك معها طفلاها، لكنهم تهيبوا. ثم بالتدريج استجمعوا شجاعتهم و جلسوا على أول درجة فالثانية فالثالثة فالرابعة، حتى إذا وصلوا للدرجة الأخيرة وانكشف لهم الميدان مبهرا بكامل مساحته سهروا إلى ما بعد منتصف الليل. هل هذه هي أمريكا ؟
***
ذهب الصيف بحرارته ورطوبته وعطشه وزبائنه الذين يقفون طوابير أمام عربات العصير ولم يكن منصور قد قال لها ماذا بعد، أخفى عنها أن عملها موسمي وأن عليها البحث عن عمل آخر يناسب جو الشتاء، أخفى عنها ذلك سهوا أو عمدا الأمر سيان، لكن المحصلة أن أم آية وجدت نفسها فجأة دون مورد رزق. وعندما عرض عليها منصور الزواج ليكون "زيتهم في دقيقهم" كما قال ترددت قليلا ثم حسمت، وضعت مصاريفها هي والولدين في كفة ووضعت في الكفة الأخرى عهدها بألا تكون لأحد بعد زوجها، ورجّحت الكفة الأخرى . لم تنجح في تحويل نشاطها من بيع العصائر إلى بيع الساندويتشات ليكون عملها صالحا لكل المواسم، هل تدخل منصور لإفشالها ؟ الله وحده أعلم بالنوايا. انتهى بها الحال لتكون جليسة لكبار السن في غير فصل الصيف، وأرهقها هذا العمل نفسيا إلى المدى الأقصى، كيف لضعيفة أن ترعى ضعفاء مثلها ؟ تبدى لها الوجه الآخر لأمريكا، وظهر في حياتها أكثر من منصور واحد فتنمرت للدفاع عن نفسها، ألم تقل لهم من البداية أن الحلم بالنسبة للأرملة الفقيرة مرادف للكابوس ولم يصدقها أحد ؟
***
ها هو شارع برودواي يتلألأ بأضوائه ويزدحم بمارته كالمعتاد، مازالت ضوضاؤه وحياته الصاخبة كما هي لكن الغريب أن شيئا فيه لم يعد يبهر أو يزغلل النظر ، فقدت نيويورك جاذبيتها لأم آية كما فقدت من قبل القاهرة أو ندّاهة يوسف إدريس جاذبيتها لفتحية الفلاحة أما منصور ابن عمتها فبدا وكأنه فص ملح وذاب.