من شرفة الدور الثانى عشر لأحد الفنادق المطلة على كورنيش الإسكندرية، تبدو المدينة عروسا تتسربل فى زرقة بحرها بموجه الهادئ فى مثل هذا الوقت من شهر أغسطس، غير أن الوضع على اليابسة ربما يكون مغايرا لما كانت عليه الأحوال قبل سنوات، عندما كان المصطافون أقل صخبا وأكثر انتشارا بالشوارع الخلفية بالقدر نفسه الذى يكتظون به أسفل «الشماسى» الممتدة بطول الكورنيش الساحر.
لا يختلف انطباع الزائر عن تبدل الحال فى طرقات ابنة المقدونى المدللة، سواء من تحت أسوار قلعتها الشهيرة، أو من أمام مسجد سيدى أبى العباس المرسى، مرورا بالمنشية ومحطة الرمل قبل الوصول إلى عمق المدينة فى أقصى الشرق عند أبى قير، مسحة من التملل تسكن النفوس التى لم تعرف فى جوهرها سوى المرح وحب الحياة بتفاصيلها البسيطة المعمدة بمياه البحر، وأفقه المفتوح على اللانهائى باتجاه الشمال.
يقولون إن مفاتيح المدن عادة ما تكون بيد سائقى التاكسى الذين يمخرون ليل نهار شوارعها، وفى الإسكندرية لن يختلف الأمر كثيرا، فما أن تضع قدميك بداخل تاكسى المدينة بلونيه الأصفر والأسود، حتى يبادرك السائق بالحديث، من غير أن تطلب، عن الإسكندرية التى لم تعد كما كانت أيام اللواء عادل لبيب محافظها الأشهر، فالرجل، يقول السائق، الحاصل على مؤهل جامعى، عرف كيف يلجم المخالفين، ويردع المستهترين من هواة تشويه المدن بالقلاع الخرسانية القبيحة التى قامت على أنقاض الفيللات والمبانى التاريخية.
رائحة القمامة الكريهة فى الشوارع الخلفية لن تخطئها أنف، وأكياس الزبالة الملقاة على شريط الترام أو بالقرب من المنشآت المهمة، تتحدث بلا مواربة عن مشكلة يضج أبناء الثغر بالشكوى منها ولسان الحال يقول «الشكوى لغير الله مذلة».
عُرِف السكندرى بأناقة هندامه، وميله الشديد لارتداء اللون الأبيض من الثياب التى تعكس نقاء نفسيا، وتمازجا مع زرقة البحر الصافية، غير أن واقع السنوات الأخيرة، بما حملته من ضيق فى الرزق، وقلقا مما تخفيه الأيام، انعكس حتى على لون ما يرتديه أبناء المدينة من ملابس، فقد باتت الألوان الداكنة أكثر انتشارا وسط الناس، ومالت الأجساد إلى الامتلاء مقارنة بالقوام الممشوق الذى كانت عليه الأبدان التى لفحتها الشمس قبل سنوات ليست ببعيدة.
على وقع صوت ارتطام البحر بكاسر الأمواج، راح الخبير السياحى محمود قمحة الذى تنقل فى عمله بين العديد من الأماكن قبل أن يستقر به المقام مديرا للفندق الذى يحمل اسم الرمز الأنثوى الأشهر ارتباطا تاريخيا بالإسكندرية، يحدثنى عن هموم السياحة والعاملين بها، وهو حديث ذو شجون.
الهم نفسه استحوذ بدوره على كلام صديقنا شريف عبدالبديع الذى اختار العمل فى المجال السياحى قبل نحو ثلاثين عاما، متنقلا بين أسوان وشرم الشيخ والإسكندرية، عوضا عن حلمه بالانخراط فى السلك الدبلوماسى، كخريج لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، شريف، كما صديقه قمحة، يتذكر بأسى الأيام الخوالى عندما كانت السياحة فى أوج نشاطها قبل سنوات، غير أنهما يعترفان بأن الظرف سيتبدل بقليل من الصبر، والإبداع فى العمل.
يعول قمحة على قرض صندوق النقد الدولى، الذى تتفاوض الحكومة حاليا للحصول عليه، فى تحريك مياه الاقتصاد الآسنة، ويتوقع دوران العجلة بوتيرة أسرع، غير أن زميله شريف، يرى فى القروض كل الشرور، ويخشى من تكبيل الأجيال القادمة بقيود هم غير مسئولين عنها، لكن الرجلين تسكنهما روح المحبة لوطن يحلمون بأن يخرج سريعا من عثرته، وأن يسترد عافية هو أهل لها.