فى الانحسار والسقوط لا يبقى أحد، فهو كالسيل يجرف الجميع ولا يبقى هناك إلا البعض، يقف أولئك فى أماكنهم يراقبون من بعيد السقطات التى ليست بحاجه إلى تفسير أو توضيح ولكنها مع الوقت تبدو وكأنها تأخذ مكانة فى عالم مليء ببقايا السقطة الكبرى.. هذا ما يحدث فى عالمنا الذى نعيشه اليوم.. فالسقوط لا ينتهى عند السياسة والاقتصاد والأخلاق والمبادئ والعلاقات والمصالح، بل يتعداها ليصل إلى الإعلام والثقافة والفنون والموسيقى والعلم، وكثير من الأمور التى بقيت فى الذاكرة الجمعية وفى كتب التاريخ لتعبر عن مرحلة ازدهار عاشتها المنطقة أو دولها.. وفيما اعتز العرب بشعرائهم فى الدولة الأموية أو العباسية أو حتى ما قبل ذلك من شعراء المعلقات حتى بقى الشعراء فيما رحل الملوك والأمراء إلا من بعض الأثر.
***
لو عاد المتنبى اليوم وراقب برامج المسابقات الشعرية على المحطات التلفزيونية العربية «المستقلة جدا!!» لقضى فى سكتة قلبية أو دخل موجة من الضحك الهستيرى.. هواة يحكمون مسابقات لهواة وأصوات جميلة لأطفال وصبية تخضع لتقييم فنانة أو فنانين منحوا اللقب كما غيرهم من قبل شركات تجارية احتكرت حتى الفن والأصوات، وساهمت فى نشر التلوث الفنى والثقافى وفى خلق أجواء من انحطاط فى الذوق العام على أقل تقدير.
***
ويستمر السقوط فوق السقوط، فمن مسابقات الشعر إلى مسابقات الغناء والموسيقى والفنون بأنواعها ويتدخل المالكون والقائمون على المحطات، والمحتكرون للإنتاج فى المنطقة ككل، فى اختيار لجان التحكيم بنفس المقاييس التى يختارون فيها قمصانهم وأحذيتهم، أن تكون مبهرة الشكل ملفتة للأنظار فارغة المحتوى وقابلة لأن تكون صورة، فيما القرارات كلها بيد نفس أولئك الأشخاص.. حتى أصبح المشهد تمثيليا مضحكا، فيما يحاول أولئك النجوم «البلاستيك» إقناع المشاهد بأنهم متعمقون فى الموسيقى العربية، فيعيدون تكرار نفس العبارات التى حفظوها عن طريق موسيقى آخر لا يملك من أدوات الإثارة والإغراء والتسويق، كما من يدربهم، فيتحول إلى كسب الرزق عن طريق تدريب وتعليم أشباه الفنانين والمطربين والرسامين والنحاتين والشعراء والروائيين.
***
جوائز الرواية العربية وأفضل شاعر وأفضل صوت طربى وأفضل راقص وأفضل عازف كلها تفصل على مقاييس تجارية تسويقية بحتة. لا يهم إن كانت تلك المسمية نفسها مطربة الـ... تملك صوتا جميلا أو صوتا متعلما أو أن تكون جاهلة فى الصوت والثقافة، ولكنها تلبس «الشانيل»!!! وذاك المطرب عليه أن يتحول إلى شكل من ما بين المطرب المحترف و«الأراجوز» الذى يروج لبرامج تشد الملايين من العرب متسمرين ومتابعين لها.. ألا تصدقون أن السقوط قد تحول لحجر أكبر من أن يتفاداه المواطن العادى الجالس فى غرفة معيشته الباحث عن مادة للتسلية بعد يوم شاق بالعناء؟! فلا يجد إلا هذا الانجرار به إلى قاع المدينة والمدنية!!!
***
يرفع الكثيرون صوتهم ضد الفساد المالى إن استطاعوا لذلك سبيلا أو حتى بين ثنايا أحاديثهم العابرة، ولكنْ قليلون من يستطيعون أن يرفعوا الصوت ضد الفساد الثقافى والأخلاقى وهو فى حقيقة الأمر انحطاط وليس فسادا فقط.. وتزداد حدة السقوط عندما تقوم لجنة التحكيم بتلك التمثيلية فى سرد أسباب اختيار الفائزين، وكأن التقييم مبنى على الكثير من المعايير الفنية والعلمية، وليس كما يريد القائمون على البرنامج أو ربما المسوقون له.. لا يعرف العربى من أين تأتيه الطعنة، ففيما كان يرفع الصوت عاليا فى الماضى «يسقط يسقط الاستعمار» ماذا يفعل اليوم والاستعمار أصبح بداخله «منه وفيه» أقرب له من دقات قلب فى صدره.. كيف يتفادى الطعنة والخوف يسكنه من الضربات المتكررة؟! إنه العبث المعجون بألم اللحظة المتجمدة إلا فى بريق لا يعبر إلى الروح.