كما أوضحت فى المقالتين السابقتين، فالدين له حضور فى السياق العام فى عدد كبير من الدول الديمقراطية التى يُعتقد أنها علمانية. وكذلك فإن الدول العلمانية الخالصة التى تعمد تماما إلى فصل الدولة عن الدين ومؤسساته تكاد تكون معدودة على أصابع اليد الواحدة، بل إن بعض الدول المصنفة بالعلمانية تتدخل السلطة فيها فى الشأن الدينى تنطيما أو تنسيقا. المشكلة الرئيسية على ما يبدو هى تلك العلاقة المعقدة بين الدين الذى يدين به أغلبية المواطنين وبين حقوق المواطنة التى يتمتع بها هؤلاء المواطنون على السواء. فى هذه المقالة نستعرض سريعا موقف الدول التى تنتشر بها الديانات البوذية والهندوسية واليهودية، وموقع هذه الدول من دور الدين والديمقراطية والتعددية.
أولا: البوذية:
تنتشر البوذية فى عدة دول آسيوية، بحيث تشكل ديانة الأغلبية أو الأكثرية فى دول مثل تايلاند، كمبوديا، ميانمار، بوتان، سريلانكا، لاوس، فيتنام، تايوان، فضلا عن هضبة التبت واليابان وكوريا الجنوبية والصين. وإذا ما استبعدنا هضبة التبت لظروف الاعتراف الدولى بها، وكذلك الصين لكونها واحدة من أكثر دول العالم تشددا فى إعطاء مساحة للدين فى الشأن العام، بحيث إن الوصف الأدق لها هو وصف «الدولة الملحدة»، فإن معظم الدول التى تنتشر بها البوذية تأتى فى مرتبة متأخرة على مقياس الديمقراطية.
فوفقا لمؤشر الوحدة المعلوماتية بمجلة «الإيكونوميست» لعام ٢٠١٥، فإنه ومن إجمالى ١٦٧ مرتبة لسلم الديمقراطية المبنى على معايير الحريات المدنية والثقافة السياسية والمشاركة السياسية ونزاهة العملية الانتخابية وقدرة الحكومة على القيام بوظائفها حيث تحصل الدولة على عدد نقاط يتراوح بين عشر نقاط «المرتبة الأكثر ديمقراطية» ونقطة واحدة «المرتبة الأخيرة»، فإن دول لاوس، فيتنام وكبموديا وبوتان وتايلند، حصلت على مراكز متأخرة للغاية كانت على الترتيب: ١٥٥، ١٢٨، ١١٣، ١٠١، ٩٨، فيما حصلت سيرلانكا على مرتبة متوسطة «٦٩»، بينما جاءت اليابان فى المرتبة الـ٢٣، وتايوان فى المرتبة الـ٣١، لتكونا الأفضل مكانة فى الدول التى تنتشر بها البوذية «نلاحظ هنا أن اليابانيين أحيانا يؤمنون بالبوذية والشنتوية معا».
ويلاحظ بيتر فرايدلاندر فى كتاب نشرته دار نشر «راوتدليدج» أن الديانة البوذية فى هذا السياق بشكل عام تميل عادة إلى الفصل بين الدولة والدين إعمالا للقصة الشهيرة فى البوذية، أن بوذا حينما خُير بين أن يكون رسولا أو حاكما، فإنه اختار أن يكون رسولا فى إشارة إلى الفصل والتفرقة بين المجالين. ورغم ذلك فإن بيتر يضرب أمثلة عديدة لدور الدين فى السياسة فى دول متعددة مثل اليابان وخصوصا النشاط السياسى لجماعة «سوكا جاكاى» والتى أنشأت حزب كوميتو المشارك فى الائتلافات الحكومية اليابانية منذ التسعينيات. ورغم ذلك فاليابان ليس لديها تشريعات لتفضيل المواطن البوذى أو الشنتوى عن غيره من المواطنين الذين يدينون بديانات أخرى والشىء نفسه بالنسبة لتايوان، بينما تغيب الديمقراطية فى باقى الدولة ذات الأغلبية البوذية لأسباب متعلقة بالصراعات العرقية والتدخلات العسكرية والفساد الإدارى.
لكن يلاحظ هنا مثلا أن الصراعات فى سيرلانكا، قد ظلت لفترة طويلة مرتبطة بتداخل الأعراق والأديان، حيث كان الصراع يدور بين السنهاليين «أغلبية بوذية» وبين التاميل «معظمهم هندوس»، وكذلك فإن دولة مثل ميانمار تشهد اضطهادا عنصريا ممنهجا ضد الأقليات المسلمة.
ثانيا: الهندوسية:
على العكس من البوذية، فإن الهندوسية تتركز بالأساس فى شبه القارة الهندية للدرجة التى جعلت القومية الهندية ترتبط بالأساس بكونها هندوسية، نظرا لأن الهندوس يشكلون الأغلبية فى معظم الولايات الهندية، فضلا عن أقليات أخرى من المسلمين والبوذيين والمسيحيين. وعلى الرغم من أن الهند تأتى فى مرتبة متقدمة للغاية على مؤشر الديمقراطية سالف الذكر، حيث تأتى فى المرتبة الـ٣٥، إلا أن جيميس تشيريانكاداس يلاحظ فى موسوعة «رواتدليدج» أن الديانة الهندوسية لا تلعب فقط دورا هاما فى الحياة العامة ولكنها تسللت بقوة فى السياسة بدءا من الثمانينيات حتى إنها وصلت إلى أن حزب بهاراتيا جاناتا ذى المرجعية الهندوسية حصد أكثر من ٥١٪ من مقاعد البرلمان فى الانتخابات البرلمانية الهندية فى عام ٢٠١٤. بل إن حكومة ولاية أوتار باراديش والتى يسيطر عليها حزب بهاراتيا جاناتا فى الولاية قد قررت فى عام ١٩٩٨ أن التلاميذ فى المدارس الحكومية عليهم أن ينشدوا صباحا ببعض الأشعار التى تمجد الهندوسية والقومية الهندية.
ولكن بالدخول على الموقع الرسمى لحزب بهاراتيا جاناتا وتصفح دستور الحزب باللغة الإنجليزية، فلا نجد أى أثر للتمييز الدينى فى رؤية الحزب أو أهدافه، فالحزب يتعهد بتنمية القومية الهندية وبالحفاظ على الدستور الهندى ويتعهد أيضا بتحقيق الديمقراطية بلا تمييز عرقى أو دينى بين المواطنين.
وعلى الرغم من أن الأقليات الدينية الأخرى وتحديدا البوذية والإسلام تحظى بقدر من التمثيل النيابى والتنفيذى والإدارى، إلا أن الصراعات العرقية - الدينية مازالت تشكل محددا هاما من محددات السياسة الهندية الحالية، كما أن الدين أصبح من أهم الدوافع التصويتية للمواطنين الهنود، سواء فى الانتخابات العامة أو على مستوى الولايات.
ثالثا: اليهودية:
رغم وجود اليهود فى العديد من دول العالم إلا أنهم حاليا يتركزون فى إسرائيل لتكون الأخيرة هى الدولة الوحيدة فى العالم التى يقطنها أغلبية من اليهود. وعلى الرغم من أن إسرائيل تتمتع بمرتبة متقدمة فى مؤشر الديمقراطية، حيث حصدت المرتبة الـ٣٤ فى عام ٢٠١٥، إلا أن سياساتها التمييزية ضد غير اليهود وكونها مازالت دولة احتلال وفقا للمواثيق والأعراف الدولية يجعل دائما هذه الديمقراطية محل تساؤل. ورغم الصراع بين العلمانيين والمتدينين فى عالم السياسة الإسرائيلية، إلا أن المنطق المؤسس للدولة هو منطق دينى بحت، فمبرر قيام الدولة اليهودية قائم على فرضية «أرض الميعاد» لبنى إسرائيل.
فضلا عن ذلك فالأحزاب الدينية اليهودية كانت ولازالت أحد أهم محددات السلوك التصويتى لقطاع كبير من المواطنين اليهود فضلا عن شراكاتها فى العديد من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. تهدف الأحزاب الدينية الإسرائيلية إلى أن تتحكم الشريعة اليهودية «الهلاخاه» فى نظام الحكم الإسرائيلى، كما أنها تتمتع بحق قانونى للقيام بأدوار تنموية تعتمد بالأساس على مجال التعليم وغيره من المجالات التنموية.
إذا فإسرائيل ذات الأغلبية اليهودية والتى تسمح للأحزاب السياسية الدينية التى تسعى إلى فرض الشريعة اليهودية بالعمل فى نظامها السياسى، فضلا عن الهند ذات الأغلبية الهندوسية والتى يقودها حزب ذو صبغة هندوسية يتعهد باحترام التعددية، فضلا عن اليابان ذات الأغلبية البوذية - الشنتوية والتى تسمح لحزب دينى أيضا بالعمل السياسى والمشاركة فى الشأن العام كلها دول متقدمة على مؤشرات الديمقراطية الغربية. باستثناء حالة إسرائيل الملتبسة والمعقدة، فإن فى حالتى اليابان والهند لم يقف وجود الدين فى الحياة العامة أو تسلله إلى السياسة عائقا فيهما أمام الديمقراطية.
ماذا تقول هذه الحالات إذا؟
تقول ببساطة إن معيار الفصل الجامد بين الدين والسياسة كما هو التصور المثالى عن العلمانية لم يكن أبدا محددا من محددات الديمقراطية، ولكن قدرة الدولة على «ضبط» العلاقة بين الدين والدولة، أو بمعنى أدق ضبط العلاقة بين الدين كمصدر إلهام للأفكار والنظريات والأيدولوجيات السياسية، فضلا عن كونه محددا لأنماط حياتية للعديد من الشعوب والعرقيات وبين السياسة باعتبارها مجالا للتنافس على الموارد بين جميع مواطنى الدولة بلا تمييز عرقى أو مذهبى كان هو الأصل فى الوصول إلى الديمقراطية والتعددية المنشودة.
هنا نسأل، كيف نحدد هذا «الضبط» المنشود فى العلاقة بين الدين والسياسة؟ كيف نتمكن من تحقيق تلك المعادلة الصعبة بين ترك مساحة حقيقية للدين فى المساحة العامة والسياسية وبين ضمان عدم افتئات دين الأغلبية على حقوق وحريات المواطنين غير المتدينين أو الذين يدينون بديانات مغايرة لديانة الأغلبية؟ سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة لاحقا من خلال خبرتى البروتستانتية والكاثوليكية.