قبل 65 عاما، وبالتحديد فى 4 يوليو 1953، خرجت إلى الأثير إذاعة «صوت العرب» من القاهرة، لتحلق فى الفضاء العربى، رابطة مشرقه بمغربه، فى حقبة زمانية كانت الأحلام بالتحرر من ربقة الاستعمار تستحوذ على كيان كل مواطن عربى يسعى إلى أن يكون للعرب كلمة، ومكان تحت شمس الله التى غابت عن أقطارنا لسنوات طوال، تحولت خلالها الأرض العربية إلى ساحة للنهب، وفرصة لكل مغامر أوروبى يسعى لبسط النفوذ والسيطرة على الأمم الأخرى.
ومنذ اليوم الأول لانطلاقها ارتبطت إذاعة «صوت العرب» بالمذيع الأشهر أحمد سعيد، التى لا يذكر اسمها إلا قرينا به، لكن الأقدار شاءت أن تحل الذكرى الـ 65 على تأسيسها، إلا وقد رحل عن عالمنا مؤسسها، الذى وافته المنية قبل أيام قليلة من الاحتفال بالمناسبة التى حولها القائمون على صوت العرب إلى يوم «وفاء» لرجل ظلمته نكسة 5 يونيو 1967، ليتلقى سهام الكارهين لكل ما مثلته حقبة تاريخية كان رمزها جمال عبدالناصر.
وفى استديو 46 بالإذاعة العريقة، تجمع، الأسبوع الماضى، محبو أحمد سعيد، وتلاميذه، وعالمو قدره، بدعوة من رئيسة شبكة «صوت العرب»، الدكتورة لمياء محمود، لتأبين الراحل الكبير، بحضور أسرته «عقيلته ونجله خالد وزوجته» لتمتزج الكلمات المحبة للرجل بتذكر أحداث كبرى مرت على مصر، وواكبتها «صوت العرب» عبر برامجها ومذيعيها الذين كانوا نجوما لامعة، آمنت بحق العرب فى النهوض ونفض غبار السنين عن أمة يحق لها الحياة.
وعلى مدى ساعتين، تبادل المشاركون، الذين شرفت بالتواجد بينهم، الميكروفون، ليخرج المتحدثون مخزون ذكرياتهم، حيث كانت البداية مع رئيس الإذاعة المصرية نادية مبروك، التى قالت إنه ما من مرة كانت تلتقى فيها الأستاذ أحمد سعيد، قبل رحيله، إلا وأوصاها خيرا بصوت العرب. أما نجله خالد فقد تحدث عن نشأته بين أسرتين: أسرته الصغيرة، (والده ووالدته)، وأسرته الكبيرة «صوت العرب» والعاملون فيها، وكيف كان منزلهم دارا للأسرتين.
وعقب شريط وثائقى استمع الحاضرون من خلاله إلى صوت أحمد سعيد، متحدثا عن التحديات التى تواجه الإعلاميين، انتقل الكلام إلى الفقيه القانونى البارز، رجائى عطية، الذى أنصف مؤسس صوت العرب، مستدعيا جانبا من الأحدث التى سبقت وتلت نكسة يونيو 67، مشيرا إلى مشاركته، كضابط فى القضاء العسكرى، فى جمع الجنود الذين عادوا من الجبهة، وسط فوضى عارمة اجتاحت القاهرة، مؤكدا أن أحمد سعيد تعرض لظلم فادح، بينما كان يتلو ما تصدره القيادة العامة للقوات المسلحة من بيانات عسكرية فى ذلك الوقت.
قامة إعلامية كبرى، تتلمذ على يديها مئات المذيعين فى مصر والوطن العربى، هو الأستاذ عبدالوهاب قتاية، الذى كان وسط المشاركين فى حفل التأبين، راح يستدعى جانبا من مسيرته المهنية التى لعب أحمد سعيد دورا مهما فيها، حينما نقله من إذاعة البرنامج العام، لينضم إلى «صوت العرب»، مكتشفا ملكاته الثقافية الكامنة، ليصبح المذيع المختص بالتنقيب عن كنوز الثقافة العربية والأدباء العرب فى كل مكان.
تلميذ آخر لأحمد سعيد، هو عباس متولى المراسل المقيم للإذاعة والتلفزيون المصرى فى واشنطن حاليا، الذى تذكر كيف كان الفقيد يصنع النجوم خلف الميكروفون، وكيف كان يعطى لكل صاحب موهبة فرصة الظهور والانتشار، وهو ما شددت عليه، أيضا، الإعلامية الكبيرة، ميرفت رجب، التى روت كيف اختارها أحمد سعيد، بعد ستة أشهر من التدريب لتقديم برنامج «زغاريد»، وعندما أبدت تخوفها من المهمة، قال لها إن المذيع كالمعدن «نلقى به فى النار إذا كان أصيلا لمع، وإذا كان زائفا احترق».
هذه هى رؤية أحمد سعيد لصنع المذيع، فلا عجب أن تظل «صوت العرب» تقدم للإذاعة المصرية المزيد من الأصوات فى اجيال متعاقبة، أمثال الدكتورة لمياء محمود، ومحمد عبدالعزيز، وعبدالبديع فهمى، ومنال هيكل، ومحمد حلمى، وأيمن عطية، ونجلاء السروجى، والدكتور جمال حماد، ونهلة مصطفى، وآخرين ممن يضيق المجال بذكرهم.. هؤلاء الذين يؤكدون أن أحمد سعيد ترك خلفه مسيرة تنبض بالحياة.