حدثان هامان، وقعا على نحو متزامن، وإن من دون تلازم، أعادا طرح «المسألة الدرزية» على مائدة السؤال والبحث والنقاش العام.. الأول، ويتمثل فى المجزرة الداعشية البشعة التى أطاحت بأرواح عشرات المواطنين السوريين من أبناء «بنى معروف» فى السويداء ومحيطها، بين شهيد وجريح ومختطف.. والثانى، ويتجلى فى ردود أفعال أبناء الطائفة الدرزية الفلسطينية، على قانون «قومية الدولة اليهودية».
فى الحدث الأول، يحتل «الدروز» مكانة متدنية فى فكر داعش وفلسفتها، تراوح ما بين الكفر والشرك، لا يعترف بـ«إسلاميتهم» ولا بـ«أحقيتهم» فى الحياة.. لديهم خياران لا ثالث لهما: الشهادتان أو السيف.. النصرة فعلت شيئا مشابها مع دروز شمال سوريا، ولم يقنعها نطقهم بالشهادتين، بل طلبت إلى رجالهم حلق شواربهم وإطالة لحاهم، والبرهنة على «حسن إسلامهم» بتزويج بناتهم ونسائهم لـ«مجاهدى أبومحمد الجولاني».
مشكلة الدروز مع العالم الإسلامى، أكثر تعقيدا، ولا تقتصر على الجماعات السلفية والوهابية المتطرفة فحسب.. لا تعترف معظم، إن لم نقل جميع المذاهب الإسلامية، بما فيها «المعتدلة»، بـ«إسلامية الدروز»، رغم أن هذه الطائفة، تدرج نفسها فى عداد الطوائف الموحدة/ المسلمة.. والمؤسف أن التمييز ضد الدروز لا يقتصر على الجانب الديني/المذهبى، بل يتخطاه إلى حقوق المواطنة فى عدد من دول الانتشار الدرزى، وتساعد بعض ممارسات «الفاعلين» فى الطائفة، من سياسيين ورجال دين، فى تكريس «عزلة» هذه الشريحة من المواطنين.
لم نلحظ حملات استنكار وتنديد واسعتين ضد جريمة داعش بحق المواطنين الدروز فى السويداء ومحيطها، لكأن الصمت تعبير فى بعض جوانبه عن «التواطؤ».. مرت الجريمة مرور الكرام، وها نحن نتابع بقية فصول المشهد فى المعارك الدائرة بين الجيش السورى وفلول داعش فى ريف السويداء الشرقى والشمالى الشرقى وعمق البادية السورية.
فى الحدث الثانى، هبّ دروز فلسطين، كما لم يفعلوا من قبل، هبة رجل واحد ضد قانون «قومية الدولة اليهودية».. أكثر من تسعين ألف درزى خرجوا فى تظاهرة تل أبيب الحاشدة (من أصل 130 ألف درزى فلسطينى)، ومعهم ألوف الإسرائيليين المناهضين للقانون ولعنصرية الدولة وتشريعاتها وممارستها التميزية.. وكان واضحا أن ثمة انقساما عميقا فى أوساط الطائفة الدرزية الكريمة.. بعضهم آثر الاندماج فى حركة الاحتجاج الوطنية الفلسطينية (داخل الخط الأخضر)، من منطلق أنه لا حل درزيا لمشكلة التمييز ضد دروز فلسطين، بل حلا وطنيا، يقوم على حفظ حقوق المواطنة والحقوق الوطنية للجماعة القومية الفلسطينية.. لكن أغلب الدروز، التيار الرئيس، خرج منافحا عن حقوق الدروز بمعزل عن حقوق بقية الأقلية العربية.
حجة هؤلاء أنهم خدموا إسرائيل كـ«أبنائها اليهود»، وقدموا أزيد من 400 «شهيد» دفاعا عنها وفى مختلف حروبها، منذ «الاستقلال» حتى اليوم، واستندوا فى مطالباتهم إلى «وثيقة الاستقلال» الإسرائيلية، التى جاء قانون «قومية الدولة» ليخرقها، وينحرف عن مضامينها الداعية لـ«المساواة».. لم نر علما فلسطينيا واحدا يرفرف فوق رءوس المتظاهرين، فقط أعلام إسرائيل حضرت بقوة، إلى جانب «العلم الدرزى»، وأصدقكم القول، ولتعذروا جهلى، بأننى أعرف لأول مرة، بأن هناك «علما درزيا» خاصا.
التظاهرة كانت أقرب إلى «العتاب المر» منها إلى «الانتفاضة» على عنصرية إسرائيل وقبح تشريعاتها.. وهى اعتراض على القانون الإسرائيلى من منطلق تعارضه مع «القانون الأساس».. وهى تذكير بالخدمات الجليلة التى قدمتها الطائفة لدولة الاحتلال والاستيطان والعنصرية، وغالبا ضد أشقائهم من العرب الفلسطينيين.. أحسب أن شعورا مختلطا خالجنى وأنا أتابع أنباء التظاهرة الحاشدة، فى جزء ضئيل منه، أننى رغبت فى رؤية تحرك واسع النطاق ضد قانون «قومية الدولة»، ولكن فى جزئه الأكبر، أننى رأيت الاحتجاج ينطلق تحت رايات إسرائيل، وذودا عن مصالحها و«قيمها» و«إعلان استقلالها»، فكان من الصعب عليّ، سياسيا وسيكولوجيا، أن أتمادى فى التعاطف.
دروز فلسطين منقسمون على أنفسهم، غالبيتهم قررت التماهى مع دولة الاحتلال، وقد وُعِدوا من قبل بنيامين نتنياهو بتقديم «قانون خاص بهم»، ينصفهم بعض الشيء، من دون المساس بـ«قانون قومية الدولة»، ولا أدرى كيف ستستقيم المعادلة.. وبعضهم الآخر، قرر التماهى مع حركة الأقلية العربية فى كفاحها من أجلها حقوقها القومية والفردية، فكانوا جزءا لا يتجزأ من الحركة الوطنية الفلسطينية، الأعم والأشمل.. الجزء الأول، الأغلبية التى نزلت فى تظاهرة تل أبيب، يبدو أنها فى طريقة لاستئناف حياتها كالمعتاد بعد وعود نتنياهو.. أما الجزء الثانى، الأقلية، فسيواصل كفاحه، كجزء لا يتجزأ من حركة الشعب الفلسطينى الوطنية.
عريب الرنتاوى
الدستور ــ الأردن