مع بدء ماراثون المسلسلات الرمضانية، يظهر أن العودة للدراما المأخوذة عن أعمال أدبية وروايات ستشهد تناميا خلال المواسم القادمة، خصوصا بعد أن صار رواج بعض الروايات وشهرة كتابها عاملا محفزا لصناع الدراما لاستثمار هذا الرواج، هناك أكثر من مسلسل نجح فى الاستحواذ على إعجاب المشاهدين (حتى الآن) وبدا أنها الأكثر إحكاما وجاذبية من بين المسلسلات الأخرى. لكن يظل لمسلسلى «أفراح القبة» المأخوذ عن رواية الكبير نجيب محفوظ، و«ساق البامبو» المأخوذ عن رواية الموهوب سعود السنعوسى وضعية مختلفة، خاصة مع المتابعة الكبيرة التى يحظى بها المسلسلان حتى الآن.
بالتأكيد شىء رائع أن يلتفت صناع الدراما إلى الأدب، المعين الأكبر، وإلى الروايات التى لن نعدم منها أعمالا تستحق أن تترجم إلى «صوت وصورة»، أما الأكثر روعة فهو أن تخرج هذه الأعمال الدرامية بمعالجة متميزة للنصوص الروائية، وأن تنجح فى تقديم عمل مواز للنص الأصلى يحظى بالاحترام والمتابعة.
لنبدأ بمسلسل «أفراح القبة».. وبعد خمس حلقات مشاهدة، يبدو عملا مختلفا بكل المقاييس، بدءا من الرواية المأخوذ عنها بذات العنوان لنجيب محفوظ، وهى واحدة من رواياته المهمة التى اعتمد فيها تقنية «تعدد الأصوات»؛ حدث واحد يتم روايته من أربعة مناظير مختلفة، تناول متعدد الوجوه للحلم المجهض للفرد والمجتمع، وصولا إلى المعالجة الدرامية لها.
صحيح أن «أفراح القبة» لم تحظ بشهرة عريضة مثل غيرها من رواياته الأخرى، لكنها فى ظنى لا تقل قيمة ولا فنا عن غيرها، بل ربما كانت من أصعب الروايات التى اشتغل عليها محفوظ ليخرج بها من الحيز الثقافى المحلى وتنفتح بطرحها وأسئلتها الملغزة على الفضاء الإنسانى الشامل والواسع.
كما تعد «أفراح القبة» من أكثر رواياته إحكاما ودقة بناء، على صغر حجمها (تقع فى 151 صفحة فى طبعة الشروق)، كأى عمل فنى أصيل له أبعاده المتعددة، إن أنت حاولت أن تزيح أو تخل ولو بجزئية واحدة منه، فإنك ستضر بالبناء بأكمله، كل كلمة فى موضعها، الحوار نموذج يحتذى فى الكشف عن دوافع الأبطال وإدارة الصراع والدفع بالأحداث إلى مسارها وفق قانون الرواية التى تنبنى على لغز محير (أو بالأحرى تساؤل)، يحاول أن يجيب عنه (فى الرواية) أربعة أصوات أساسية: طارق رمضان، كرم يونس، حليمة الكبش، وأخيرا عباس كرم يونس.
الأربعة يتحركون فى فضاءين متميزين، فضاء البيت القديم الذى شهد كل المسكوت عنه فى حيواتهم خارج المسرح، ذلك البيت القديم«رابض مكانه بما يطويه فى صدره من تاريخ أسود وأحمر»، وفضاء المسرح وكواليسه الذى تتلاقى فيه جميع الخيوط وتتشابك الأحداث والمصائر. زوج وزوجته وابنهما الوحيد، وزميلهم الممثل الثانوى طارق رمضان، عدوهم اللدود، وخصمهم الشرس، وبين هؤلاء الأربعة، ومن خلالهم، نتعرف على بقية الشخصيات المساعدة، وأدوارهم، وطبيعة العلاقات المعقدة الظاهرة منها والخفية التى جمعت بينهم.
لا أريد الاستغراق فى تحليل الرواية (ربما فى مناسبة أخرى) على حساب المسلسل، الذى بدت معالجته النصية والدرامية للرواية مثيرة وشائقة، تدور أحداث المسلسل فى إطار من التراجيديا الرفيعة داخل إحدى الفرق المسرحية خلال حقبة السبعينيات (فرقة الهلالى المسرحية) لصاحبها ومديرها سرحان الهلالى (جمال سليمان). تنطلق الأحداث خلال جلسات القراءة الجماعية لنص مسرحى جديد بعنوان «أفراح القبة» كتبه عباس كرم (قام بدوره الممثل الشاب محمد الشرنوبى)، يكتشف الممثلون أن أحداث المسرحية تدور حول شخصياتهم الحقيقية فى كواليس المسرح، وأن مؤلف المسرحية يعرض أمامهم أسرارهم المشينة التى حدثت بالماضى، تاريخ أسود دارت وقائعه المخزية فى البيت القديم بباب الشعرية. يسعى الممثلون لإيقاف هذه المسرحية الفاضحة لهم، لكن مالك الفرقة سرحان الهلالى يُصر على استكمال العمل لكى يتطهر من آثام الماضى (أو هكذا يبدو)، ويجد الممثلون أنفسهم مجبرين على الاستمرار فى تمثيل أدوارهم الحقيقية، فى أحداث تحكيها ممثلة ناشئة «تحية» (تلعب دورها منى زكى) انضمت للفرقة بحثا عن فرصة تحت الأضواء.
وبين الحقيقة والخيال، تتجسد أسئلة النص والدراما معا: هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ هل يستطيع المرء أن يهرب من تاريخه؟ هل يمكن أن ينتصر الخير بأساليب الشر؟ كل هذه الأسئلة وغيرها لا ينطقها الأبطال مباشرة ولا يصرحون بها بألسنتهم لكنها تتجسد فى وقائع وأحداث وصراع وحوار ومشاهد محكمة.
ومن المشاهد الأولى بدا أن مخرج العمل محمد ياسين يقدم تجربة جديدة جدا، يتحكم بمهارة فى إيقاع العمل، كل مشهد يمهد لما بعده، ويزيح الستار شيئا فشيئا عن العالم الذى تتكشف تفاصيله وتتضح معالمه وشخصياته بهدوء وتأن. الذى قام بالمعالجة الدرامية للنص لم يقرأ الرواية فقط ويغوص فى أحداثها وتفاصيلها، بل أحبها أيضا وصارت جزءا من شواغله وأخلص لها فى الحلقات الخمس الأولى إخلاصا كبيرا، ولهذا نجحت الكتابة (السيناريو والحوار) فى الحفاظ على روح النص (على الأقل حتى الآن).
اختيار الممثلين غاية فى التوفيق، بعضهم يعيد اكتشاف نفسه من جديد، وتبرز مواهبه الأصيلة التى توارت طويلا فى أعمال هشة واختيارات رديئة. ينطبق هذا غاية الانطباق على منى زكى التى تلعب دور الممثلة «تحية»، على الأقل فى ما مضى من حلقات، تعبيرات الوجه وحركة الجسد والصوت، كلها تؤديها ببراعة وتميز.
إياد نصار فى دور طارق رمضان، يقدم لونا أدائيا جديدا عليه، لكنه حتى الآن مقنع وتبرز بصمته الخاصة فى تجسيده لشخصية مركبة متعددة المستويات، وكالعادة يشد صبرى فواز المشاهدين بأدائه البسيط المحكم فى دور كرم عباس، يؤدى فواز بانسيابية ودون مجهود، صوتا وحركة، أما صبا مبارك، فهى تعلن عن نفسها كممثلة عملاقة فى دور «درية»، نضج وثقة وحضور عارم. المخضرمة سلوى عثمان فى دور «أم هانى»، تؤدى واحدا من أفضل مشاهدها فى الحلقة الرابعة وهى تنعى «منافستها» فى حب طارق رمضان، و«ضرتها العاطفية» تحية.
أما الممثل الشاب محمد الشرنوبى الذى يؤدى دور «عباس كرم»، فهو مفاجأة حقيقية، رغم صغر سنه، يؤدى دورا صعبا ومركبا، شخصية المؤلف المسرحى المثالى الذى ستودى به مثاليته وبحثه عن الانتصار للخير والتطهر من آثام الماضى إلى ارتكاب شرور، يقع على الحافة بين الحلم والجنون، بين براءة المشاعر وفورة الانتقام، تتنازعه مشاعر شتى ستتضح وتتكشف فى ما هو مقبل من الحلقات.
صابرين، سيكون لنا معها وقفات مطولة مع الحلقات القادمة.
الموسيقى التصويرية لهشام نزيه رائعة، توحى بغموض مثير يحمل وراءه أطنانا من الأسرار والتفاصيل المسكوت عنها، بصدق موسيقى هشام نزيه «لمسة شجن فى جملة يرددها الكمان، وأصوات تترجم تقلب العواطف البشرية سواء على المسرح أو بين ممثلى الفرقة»، كما وصفها الصديق والناقد الكبير محمود عبدالشكور.
السؤال: هل سيحافظ المسلسل على إيقاعه المدهش وكتابته المحكمة وأداءات ممثليه الرائعة وينجو من فخ المط والتطويل فى ما هو قادم؟
سنرى..