أحيانا نشاهد لقطة من لقاء، أو نسمع جملة فى حوار، يكون وقعها متفاوتا من مشاهد لآخر أو مستمع لآخر. ثم يحملها المشاهد أو المستمع حسب هواه، بطريقة تعزز ما يحمله من أفكار مسبقة. والقليل من يتوقف ليراجع ما يشاهده وقد يفطن أن هناك معانى أخرى خلف ما يشاهده أو يسمعه. ولنضرب مثالا من مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة الذى انعقد بنهاية أغسطس فى العراق، ورأى البعض أنه فاتحة خير على المنطقة تساهم فى تخفيف التوتر بين الغرماء أو الفرقاء وتمهد الباب لفتح طرق التعاون بدلا من طرق الصراع المتأجج فى المنطقة. ومع التقدير لهذه المعانى الهامة، كان من اللافت للانتباه مستوى تمثيل الدول. فبينما مثّل الدول العربية العديد من قادة الدول، وأيضا حضر رئيس فرنسا بنفسه، فإن إيران اكتفت بوزير خارجيتها ممثلا عنها لحضور المؤتمر. وفى مشهد آخر لافت للانتباه، وقبل يوم واحد من نهاية المهلة التى حددتها أمريكا لاكتمال انسحابها من أفغانستان، عقدت مجموعة الدول السبع الكبرى اجتماعا يوم 30 أغسطس بحضور كل من قطر وتركيا لبحث استكمال عملية إجلاء الرعايا الأجانب، وإدارة مطار كابول، ثم شكل العملية السياسية بعد الانسحاب. هذا ولم تُدعَ أى دولة عربية أخرى لحضور هذه القمة، بالرغم من الأدوار التى لعبتها الإمارات فى عملية الإجلاء والتى استدعت شكر الولايات المتحدة.
***
يوجد فريق يرى هذه الأمور على أنها هامشية، فمؤتمر بغداد منصة تطورت بعد اللقاءات الدورية بين مصر والأردن والعراق. ويعتبر خطوة للأمام. وتوقف بعض أصحاب هذا الرأى أمام الملابسات الظاهرية للقاء الذى انعقد على هامش القمة بين رئيس مصر وأمير قطر، حيث كان علم مصر أكبر من علم قطر، وكرسى الرئيس متقدما على كرسى الأمير. ومن دقة هذه الملاحظات تظن أن المتابعين لهم عين فاحصة لا يفوتها شيئا، حتى النعال الذى كان يرتديه الأمير. بينما لم نسمع منهم أى ذكر لوقوف وزير خارجية إيران فى الصف الأول مع الرؤساء وقادة الدول أثناء الصورة التذكارية بعد المؤتمر، بينما كان الأولى بوزير خارجية إيران الوقوف فى الصف الخلفى، مع الوزراء، والذى كان يتوسطه أمين عام جامعة الدول العربية. هذه الأمور الرمزية لها مدلول فى حد ذاتها، ولكن تختلف قراءتها من متابع أو محلل إلى آخر. والمقصود ليس التقليل من شأن أحد لحساب آخر، أو النفخ فى صورة دولة على حساب أخرى. ولكن المقصود هو تحرير الصور ورمزيتها من المعانى المسبق؛ لأن المنطقة تتغير، وما كان سائدا من أفكار خلال الثورات العربية وتبعاتها لم يعد الأهم فى هذه الفترة، ولكن أفكارا أخرى تحتاج مراجعة وفهما. ومنها ليس فقط استمرار التعالى الغربى على الدول العربية، وليس أيضا عدم اكتراث إيران بقوى المنطقة، ولكن بالأحرى عدم إدراك حقيقة وضع الدول العربية، والذى يصاحبه للأسف حالة من التفخيم الوهمى نابعا من الإعلام الداخلى لأثر الدولة خارجيا والذى لا تؤكده الأحداث، بل وتنفيه الوقائع.
صورة فكرية مشابهة تواكب الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، وينهال الإعلام الغربى ويتبعه العربى بأسئلة نمطية مكررة لقادة طالبان والمتحدثين الرسميين عن احترام حقوق الإنسان، لاسيما حقوق المرأة والطفل. وتجد المذيعة وهى تسأل مسئول طالبان تطرح السؤال بتحفز لتوضح للعالم ما الذى يمكن أن تنتظره نساء أفغانستان الضعيفات من تطبيق الشريعة بيد طالبان. وهى صورة نمطية تشيطن الشريعة الإسلامية وتضعها فى موقف المدافع، وتشوه طالبان حتى من قبل أن تصنع أى شيء، فمجرد وجود الشكل الطالبانى يكفى. وفى هذا السياق، نسأل، وماذا فعلت أمريكا وقواتها وحلفاؤها فى ملف حقوق الإنسان فى أفغانستان على مدار 20 عاما مدة الاحتلال الأمريكى لأفغانستان؟ ولنبدأ بعدد الضحايا الذين قضوا فى قصف بالطائرات بدون طيار، ثم تبين أنهم مجرد مزارعين لا حول لهم ولا قوة. أين حقوق هؤلاء الضحايا؟ وفى كل مرة تثبت فيه الانتهاكات يخرج المتحدث الرسمى باسم الجيش الأمريكى ليعتذر، وأحيانا يضيف سنفتح تحقيقا داخليا، الذى عادة يختفى مع الوقت. ثم ماذا عن قصف حفلات الزواج الذى راح ضحيته المئات من النساء والأطفال، هل من حق أحد أن يسأل عن حقوق هؤلاء، وأين يسأل؟ علما بأن إدارة ترامب هددت المحكمة الجنائية الدولية بعقوبات حال إقدامها على فتح أى قضية تمس جنود الجيش الأمريكى. ولم نتكلم بعد عن مئات الآلاف من المشردات بسبب قتل ذويهم، ومثلهم المهاجرات واللاجئات هروبا من ممارسات القوات الغربية، والتى جعلت أفغانستان ثانى مصدّر للمهاجرين والمهاجرات واللاجئين واللاجئات بعد سوريا.
***
وما تحسبه أمورا رمزية تدور بعيدا فى العالم الخارجى تجد صورا لأمور أخرى تدور داخل المجتمعات ولها بالغ الأثر، ولا يتوقف أمامها إلا القليل بالبحث والمراجعة. فمثلا، بينما كانت الفكرة من الرياضة هى الممارسة، فإذا بظاهرة الجماهير تغزو الحياة الرياضية. ثم تحولت الجماهير التى لا تلعب ولكن فقط تتابع، إلى لاعب مؤثر له موقف وكلمة فى شأن اللعبة التى هى فى الأغلب كرة القدم. ويتحزب بعض الناس لنادٍ، ويتحزب البعض الآخر لنادٍ ثانٍ، وثالث.. إلخ. وهو أمر طبيعى يجرى فى عالم الرياضة فى كل بلد. لكن الأمر غير الطبيعى تحول هذا إلى حالة من الاستخفاف المتبادل بين الجماهير، يتبعه الهجوم المتواصل على مواقع التواصل الاجتماعى، ويصل إلى حد العراك بين الأصدقاء فى الكافتيريات والنوادى، على طريقة اللعب، وقرار الحكم، ونتيجة المباراة. يحدث هذا فى بلد يقل فيها عدد ممارسى الرياضات جميع عن 1% من تعداد السكان، بينما تنقسم كتل بالملايين من الجماهير انقساما فعليا يترسخ عبر الزمن ويتأصل. ولنتذكر كيف ساهمت بطولات كأس الأمم الأفريقية 2006، 2008، 2010 فى بزوغ ظاهرة ألتراس، ثم نستحضر بعدها دورهم وأثرهم فى سنوات الاضطرابات بدءا من عام 2011. باختصار ظاهرة انقسام الناس لمشجعين لنوادٍ، متوغلة فى المجتمع ومفعولها مستمر بدون أن ندرى ما ستسفر عنه والنتائج التى سنصل إليها. ولو لم نتنبه لهذه الاتجاهات التى تسير أمام أعين جميع الناس ونقبلها كأنها أمر طبيعى، سيكون لها أثر غير طبيعى سنراه بعد فوات الأوان. لاحظ أن كل ما قرأته فى هذا المقال لا يخص الخارج، وإنما يخص رؤية مجتمع واحد لما يراه فى الخارج أو الداخل.