ملفوفا بملاءة صفراء تخفى عار صاحبه النصاب الدولى، والمحتال الفرنسى، خرج تمثال فرديناند ديليسبس، مطرودا من مدينة بورسعيد الباسلة، عقب حملة استمرت لسنوات طوال، تخللتها معارك كر وفر كان آخرها فى الشهور القليلة الماضية، بين جهات حاولت إعادة التمثال إلى قاعدته فى المدخل الشمالى لقناة السويس، وأحفاد من نسفوه قبل 64 عاما بمساعدة رجال «صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فى الدفاع عن تراب هذا الوطن.
خرج تمثال ديليسبس من بورسعيد يجر عار هزيمة من حاولوا، لمصالح ذاتية، فرضه مجدداعلى أبناء المدينة الذين يسجل التاريخ المعاصر بكل إجلال واحترام تضحياتهم فى الذود عن وطنهم عندما شنت القوات الفرنسية والبريطانية، برفقة جنود العدو الصهيونى، عدوانا ثلاثيا على مصر بعد إعلان الزعيم جمال عبدالناصر فى 26 يوليو عام 1956، تأميم قناة السويس، وإعادتها إلى أحفاد من حفروها من الفلاحين المصريين.
استطاع أبناء بورسعيد، وبمساندة أصوات وأقلام يشرفنى أن كنت من بين أصحابها، إيصال رسالة مفادها أن المدينة الباسلة لا مكان فيها لمن ساهم بخيانته للزعيم الوطنى أحمد عرابى ورفاقه، فى وقوع مصر فى يد الاحتلال البريطانى عام 1882، ليظل الإنجليز ينهبون خيرات مصر وثرواتها قبل طردهم عقب قيام ثورة يوليو 1952، وهى جريمة لا يمكن أن تسقط عن ديليسبس بالتقادم، ولا يجب أن يكون لصاحبها أى تشريف أو تقدير فى بلادنا.
اليوم يقبع تمثال ديليسبس بمتحف هيئة قناة السويس فى شارع محمد على بمدينة الإسماعيلية، متواريا عن العيون، يستجدى زائرا يمكن أن يقف دقائق ليقرأ سجله الحافل بالخزى والعار فى حق مصر وفلاحيها الذين مات 120 ألفا منهم فى حفر القناة، والعمل بالسخرة، لتصب عوائدها بعد ذلك فى جيوب الأجانب والمحتلين الذين ينتمى إليهم المحتال الفرنسى.
ومع توجيهنا الشكر والتقدير لمن استجاب لنداء الحق، وانتصر لدماء الشهداء الذين ضحوا بحياتهم دفاعا عن هذا الوطن، نقول لمن أرادوها «بضاعة تباع وتشترى»، إن نضال الشعوب لا يمكن أن يدخل فى سوق المزادات العلنية أو الخفية، فالكرامة الوطنية ليست مجالا للتربح، وما لها أن تكون أبدا بابا للكسب الحرام، فالأوطان الحرة تحمل لافتة عريضة تقول: ممنوع الاقتراب أو التفريط.
والسؤال الآن: ماذا بعد انتصار حملة منع وضع تمثال ديليسبس على قاعدته؟
الدكتور أحمد الصاوى أحد أبناء بورسعيد النجباء، وأستاذ الآثار الإسلامية فى جامعة القاهرة، يقول فى نقاش دار بيننا، «إنه ومع التقدير الكامل لاستجابة القيادة السياسة لمطالب الحركة الوطنية، فإن تمام الأمر تصحيحا للتاريخ ورفعا للغبن سيكون بإصدار توجيه رئاسى بعمل تمثال أو نصب تذكارى سامق القامة يمثل مصر بحضارتها الأصيلة وبدورها الذى لم ينقطع فى إدارة وتطوير هذا المجرى الملاحى بعد جهود أبنائها فى حفره والدفاع عنه».
ويتطلع الدكتور الصاوى الذى كان له جهد مقدر فى حملة منع عودة التمثال «لعملين فنيين كبيرين يقوم أحدهما عند المدخل الشمالى للقناة، والآخر عند المدخل الجنوبى أو عند التفريعة الجديدة» لتجسيد تضحيات المصريين فى حفر القناة مشيرا إلى «أن مصر غنية بتماثيلها الفرعونية الضخمة والمبهرة وأيضا بفنانيها التشكيليين»، مطالبا وزيرة الثقافة بتبنى هذه الفكرة، وعمل مسابقة فنية لتحقيقها على أرض الواقع.
دعوة الصاوى والتى تلتقى مع أفكار مشابهة للعديد من المثقفين الذى طالبوا غير مرة بإقامة تمثال عن مدخل القناة الشمالى لرمز مصرى خالص، تكتسب اليوم زخما أكبر، ونتمنى أن تجد الاستجابة من الجهات التى انتصرت للوعى الشعبى فى قضية ديليسبس.