ما يجرى فى لبنان يجب أن يكون موضع قلق وانزعاج كبيرين فى مصر، ليس فقط بسبب الود التلقائى الذى يكنه المصريون جميعا للبنان كبلد الفن والثقافة، ورائد حركة التحديث فى الوطن العربى مع مصر وتونس، ولكننا يجب أن نهتم أيضا بلبنان' لأن كثيرين من اللبنانيين كانوا يتطلعون إلى أن تأتى لهم الشقيقة الكبرى مصر فى أوقات أزماتهم تعينهم على الخروج منها، لأنه ليس لها مطامع فى وطنهم، وهى تحرص على استقلاله ودوره إيمانا منها بأن استقرار لبنان هو مصلحة عربية مشتركة، وهذا هو الموقف الذى اتخذته مصر من أزمات لبنان فى العقدين الخامس والسادس من القرن الماضى عندما كان صوت مصر مسموعا فى الوطن العربى، بل وفى العالم بأسره. ومع أن هذا الدور قد انحسر كثيرا منذ ذلك العهد، إلا أن ما يمر به لبنان الآن قد تكون له تبعات خطيرة على أمن الشرق الأوسط ككل، بل وعلى العلاقة بين مواطنى دوله، عندما يجره البعض إلى ما يشبه مواجهة بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة لأسباب لا علاقة لها بجوهر العقيدتين الدينيتين وإنما هى انعكاس لمطامح إقليمية لدى طرفين يتلاعب كل منهما بالدين خدمة لمصالح وطنية ضيقة. ولتوضيح الدور الذى كان يمكن لمصر أن تلعبه، فلا مفر من أن يكون فهم أبعاد أزمة لبنان مقدمة ضرورية وذلك لتعقد معالم هذه الأزمة أولا وتعدد أطرافها، وثانيا لأن الميل لهذا الفريق أو ذاك يلون تحليل الأقلام والأصوات المختلفة لجذورها.
فعلى المستوى المحلى فبالرغم من تسليم معظم اللبنانيين بأن بلدهم مجال للتنافس بين قوى عربية وإقليمية فى الشرق الأوسط، وأن معظم القوى السياسية اللبنانية هى مدينة لطرف أو آخر على مسرح السياسة الشرق أوسطية ــ فإنهم يأملون ألا يؤدى هذا التنافس إلى تدمير التوازن الذى قام عليه النظام السياسى اللبنانى منذ نشأته، والذى تلخص فى الميثاق الوطنى فى سنة 1943، وتجدد بصيغة مختلفة فى اتفاق الطائف فى 1989، واللذين جعلا هذا النظام قائما على توافق بين مكونات المجتمع الدينية والطائفية فى ظل تقاسم للسلطة مرضٍ نسبيا لكل الأطراف، حتى وإن كان لا يحقق لأى طرف مصلحته القصوى. وقد كان هذا الاتفاق الأخير يقضى بنزع سلاح كل الميليشيات التى تحاربت على مدى أربع عشرة سنة قبل إبرامه، وهو ما التزمت به كل الأطراف، ماعدا حزب الله الذى استند بداية للتأييد الذى كان يتمتع به من جانب القوات السورية التى ظلت تحتل لبنان حتى سنة 2005، ثم من جانب إيران التى اتسع نفوذها فى كل الشرق الأوسط منذ ثورتها التى أطاحت بحكم الشاه فى سنة 1979، والتى كسبت لها كثيرين من المؤيدين والمتعاطفين فى كل الشرق الأوسط. وقد كانت كل القوى السنية والمسيحية تميل عموما إلى الحفاظ على روح اتفاق الطائف، ولكن حزب الله استمر يتحدى روح هذا الاتفاق بتعطيل أى توافق بين أعضاء الحكومة باعتماده على امتلاكه وأنصاره على ما يسمى بالثلث زائد واحد الضرورى لاتخاذ أى قرار، ثم بالاستناد إلى الدعم الذى أصبح يلقاه من جانب من القوى المسيحية بزعامة ميشيل عون الذى كان يتطلع لرئاسة الجمهورية اللبنانية، ولكنه كان يفتقد تأييد معظم القوى السنية وجانبا مهما من القوى المسيحية، وأدى ذلك إلى امتناع أنصار عون وحزب الله عن حضور اجتماعات البرلمان اللبنانى الضرورية لانتخاب رئيس الجمهورية، واستمر ذلك زهاء عامين ونصف العام حتى 31 أكتوبر 2016 بعد أن وافق سعد الحريرى زعيم القوى السنية، وكان تقديره أن انتخاب عون لهذا المنصب قد يبعده قليلا عن حزب الله بحيث يصبح عنصر توازن فى النظام السياسى اللبنانى، وعلى نحو يحفظ للبنان استقلاليته وعلاقاته الطيبة عموما مع الدول العربية، وخصوصا دول الخليج التى يعتمد عليها اقتصاد لبنان، والتى لم تبخل على لبنان بالعون.
***
وإذا كانت توقعات الحريرى لم تتحقق، فقد يعود ذلك فى قسم منه إلى أن كلا من عون وحزب الله لم يفسرا تغير موقف الحريرى على أنه دعوة للتوافق، ولكن على أنه اعتراف بهزيمته وتسليم لهما بقيادة مسيرة لبنان الوطنية والإقليمية كما يشاءان، أو بمعنى أدق كما تشاء القوة الإقليمية التى تساندهما وهى إيران. وفى الحقيقة لم يكن ذلك مدهشا على ضوء الانتصارات التى كانت تجنيها إيران على الساحة العربية خصوصا بنفوذها على الحكومتين العراقية والسورية، الأولى بسبب المكون الشيعى المسيطر عليها والثانية بفضل الدعم العسكرى الذى تقدمه إيران، ووجود قوات الحرس الثورى الإيرانى فى البلدين، وكذلك بفضل تأييدها للحوثيين فى اليمن، وهم يمثلون قسمًا من الشيعة فى ذلك البلد، فضلا عن مساعداتها لتنظيم حماس فى غزة وتعاطفها مع مطالب الشيعة فى دول الخليج، وخصوصا فى البحرين والسعودية. لم يكن ضيق الحريرى بعون وحزب الله راجعا فقط لما يمكن أن يعتبره خروجا على روح توافقه معهما، ولكن لأن حزب الله لم يكتف بنفوذه على الساحة اللبنانية، وإنما اتخذ جانب الحكومة السورية فى الصراع الدائر بينها والقوى المعارضة لها بل أرسل قواته لدعمها، كما اتهمته حكومات عربية بمد يد العون لقوى مسلحة متمردة عليها فى البحرين أولا ثم فى اليمن وأخيرا فى الكويت. والأمر الخطير بالنسبة للحكومة اللبنانبة برئاسة الحريرى أن قرار الدخول فى حرب فى سوريا لم يكن قرارها، ولا هى استشيرت فيه، ومن ثم فقد اعتبرت أن ما فعله حزب الله هو توريطها فى حرب عليها أن تتحمل تبعاتها دون أن يكون لها دور لا فى الدخول فيها ولا تحديد مسارها، وهو الموقف الصحيح لأى حكومة تحترم تفويض الشعب لها.
***
ونظرا لأن إيران ليست هى اللاعب الوحيد على المسرح السياسى اللبنانى، فإن نفوذها من خلال حزب الله وأنصاره لم يرق لتلك القوى الأخرى وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية تحت القيادة الشابة والطموح لمحمد بن سلمان ودول الخليج باستثناء قطر وعمان، وهى الدول التى كانت تساند سعد الحريرى. وقد انزعجت هذه الدول من الانتصارات التى تحققها إيران على الساحة العربية، وخصوصا فى كل من العراق وسوريا، ونغمة الاستعلاء والفخر التى أصبحت تميز تصريحات الساسة الإيرانيين، وآخرها ما جاء على لسان الرئيس الإيرانى حسن روحانى، من أنه لا يُتخذ قرار فى أى عاصمة عربية دون أن يكون لإيران دور فيه.
هذا الانزعاج من تطورات الساحة السياسية اللبنانية ونفوذ إيران الكاسح فيها تشترك فيه قوى شرق أوسطية أخرى وقوى دولية، وخصوصا إسرائيل والولايات المتحدة تحت رئاسة دونالد ترامب. الاثنتان تريدان حرمان حزب الله وإيران من ترجمة انتصاراتهما فى سوريا إلى مكاسب فى دول عربية أخرى، بل وتريدان كسر شوكتهما عموما. إسرائيل لا تغفر لحزب الله ما يعتبره هزيمة لها فى حرب صيف 2006، وإدارة ترامب تعتبره منظمة إرهابية. ويعارض الاثنان الاتفاق النووى الذى أبرمته إيران مع الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا. بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل تحدث مرارا عن الجبهة المشتركة التى تشكلها إسرائيل مع الدول ذات الأغلبية السنية فى المنطقة ضد إيران. ولذلك لا تستبعد صحة التقارير التى أشارت إلى أن صهر الرئيس الأمريكى جاريد كوشنر ومستشاره للشرق الأوسط قد توصلا فى زيارة أخيرة لإسرائيل وبعض دول المنطقة ومنها السعودية إلى تفاهم حول عمل مشترك ضد حزب الله وربما إيران أيضا.
***
اتخذت السعودية والإمارات والبحرين والكويت قرارات بدعوة مواطنيها لمغادرة لبنان بسبب ما قد ينجم عن تطورات الموقف فيه من خطر على أمنهم، وصرحت مصادر سعودية بأن هذه الدول ستتخذ إجراءات تصعيدية متدرجة. هذه القرارات يدفع ثمنها الشعب اللبنانى الذى لا ناقة له ولا جمل فى قرارات حزب الله أو فى استقالة الحريرى من السعودية. وإذا كانت تلك هى بداية حرب شيعية سنية فى الشرق الأوسط فهى حرب بين حكومات لا يستند أى منها إلى إرادة شعبية حرة، وهى حرب لا تريدها شعوب الشرق الأوسط، وإنما هى قمة أمنيات الحكومات التى تعادى مصالحها، وتحديدا كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وهى حرب لا كاسب ولا مهزوم فيها، وسوف يكون وقودها هو العرب والإيرانيون، وتكتفى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل فيها بنفخ النيران.
هل من حكومة عاقلة فى الشرق الأوسط يمكن أن ترفع دعوة الاتزان والرشد لإيقاف هذا السباق المحموم لحافة الهاوية الذى يحرف جهود هذه الشعوب عن قضاياها الحقيقية فى العيش الكريم والحرية؟. كان يمكن لمصر أن تقوم بهذا الدور فى الماضى لأن مصلحتها ترتفع فوق صراعات القوة والنفوذ هذه، وتكتسب مكانتها لأنها تعلى شأن المصالح الحقيقية للدول العربية والإسلامية. ولكن جسورنا مقطوعة مع الطرف الآخر فى هذه الأزمة، مع كل من إيران وحزب الله، رغم انفتاحه محدودة على بعض القوى الشيعية فى لبنان مثل السيد نبيه برى. دعوة الاتزان والرشد ليست موقفا معاديا للسعودية ولا إيران، ولكنها انقاذ لهما من السقوط من حافة الهاوية والعودة إلى ما يحقق السلام والاستقرار لكل شعوب الشرق الأوسط.