حالة النشوى الشعبية التى تعيشها المنطقة العربية احتفالا بوصول منتخب المغرب لدور الثمانية فى مونديال قطر 2022، تقابلها حالة أخرى من الحماسة فى الرياض بالمملكة العربية السعودية احتفاء بوصول الرئيس الصينى لعقد قمتين مع قادة الخليج، ثم قادة العرب. وبينما ارتفع سقف توقعات الجمهور العربى من أداء الفريق المغربى، وتمنى البعض فوزه بكأس العالم لكى يصبح أول من يحقق ذلك عربيا وأفريقيا، فإن الكثيرين فى العالم العربى يأملون فى أن تسفر زيارة الرئيس الصينى عن تغيير ملحوظ فى أحوال المنطقة للأحسن. وقد تستند الآمال الشعبية على حجم التبادل التجارى القائم بالفعل بين العالم العربى والصين. فحجم واردات الصين من المنطقة نحو 130 مليار دولار، بينما حجم واردات الولايات المتحدة 34 مليار دولار فقط. كما تصدر الصين للمنطقة بنحو 129 مليارا، بينما تصدر الولايات المتحدة بنحو 48 مليار دولار فقط. لكن قبل انتعاش الآمال ورفع سقف التوقعات من زيارة الرئيس الصينى، لا بد من التنبه لبعض النقاط.
عندما تتعامل الصين مع منطقة الشرق الأوسط بحجم تعاملات يفوق ثلاثة أمثال حجم تعاملات الولايات المتحدة، فهى تفعل ذلك اقتصاديا فقط، بدون أى اعتبارات أو أبعاد سياسية أو جيوــ إستراتيجية. فهى تتعاون مع إيران والسعودية بالقدر نفسه، ولا يهمها أن هذا شيعى وهذا سنى، أو هذا عربى وهذا فارسى. كما تتعاون مع إسرائيل، وأى دولة عربية «ما زالت» ضد التطبيع، بدون الأخذ فى الاعتبار بأن هذا مسلم وهذا صهيونى، إلخ من الاعتبارات التى قد يتنبه إليها قوى أخرى تتعامل من منطلقات إستراتيجية مع المنطقة. ولذلك عندما قررت الصين مد طريق الحرير البرى إلى أوروبا لم تمانع وصوله عبر روسيا إلى أوروبا، ثم أيضا عبر إيران وتركيا إلى أوروبا. وبالرغم من أن الوصلة عن طريق إيران لم تعمل بعد، لكن هذا لن يوقف المشروع. الشىء نفسه تكرر فى طريق الحرير البحرى، الذى له محطة أو مرتكز أساسى فى ميناء شمال غرب السويس، وآخر أساسى مع إسرائيل فى ميناء حيفا بفلسطين المحتلة. ومن ثم بالرغم من تفهمها للحساسيات السياسية، لكنها لا تقحم نفسها أبدا فى ملفات شائكة أو حقول ألغام سياسية، وتعطى الأولوية للأبعاد الاقتصادية.
الأمر الثانى، وقعت الصين شراكة استراتيجية مع 12 دولة بالمنطقة، من ضمنها تركيا، وإيران. وكانت أولى الاتفاقيات مع مصر سنة 1999 وآخرها مع عمان والكويت سنة 2018. كما تتفاوض لعقد اتفاقية تجارة حرة مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وتتقدم الصين ببراجماتية سياسية تحسد عليها. ولكن تقدمها لا يستند على سياسات توسعية تدفع بها لتعزيز مكانتها بالمنطقة، وإنما المفارقة أن أهم العوامل التى تساهم فى تقدم الصين ومصالحها ليست من صنع الصين. بل قد يكون أهم عامل على الإطلاق هو التحول الإستراتيجى الأمريكى الذى نقل نقطة التركيز من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لمجابهة الصعود الاقتصادى الكبير للصين. والعامل الثانى هو رغبة دول المنطقة ذاتها فى توسعة المجال أمام الصين لتشغل حيزا أكبر مما هو عليه. ويؤكد على ذلك ترتيب لقاء قمة خليجية وأخرى عربية مع الرئيس الصينى بعد أقل من ستة أشهر على قمة الرئيس الأمريكى مع قادة الخليج و«بعض» القادة العرب.
الأمر الثالث، بالرغم من رفع سقف التوقعات العربية، لكن الصين لا يسعها التمدد لتشغل دور الشريك الأمنى بالمنطقة العربية. فلا هى تريد إقحام نفسها فى ترتيب شئون المنطقة، ولا تريد الانزلاق داخل ملفات سياسية شائكة فى جميع أرجاء المنطقة. ناهيك عن الألاعيب السياسية التى تجيدها القوى الغربية المرتبطة بالمنطقة منذ عقود والتى بوسعها ترتيب عدة ألغام فى طريق أى توسع صينى أمنى بالمنطقة. ومن ثم لا يبدو أن الصين مشغولة بهذا النوع من التوسع. ويكفيها التحديات فى الشرق الأقصى، سواء فى تايوان، أو كوريا الشمالية، أو حتى التبت. وهى كلها براميل بارود قابلة للاشتعال. وعلى الحكومات العربية التحسب لمسألة برميل بارود آخر يتم اللعب به إعلاميا وهو مسألة تعامل الصين مع أقلية الإيجور، الذى تسلط عليها الميديا الغربية الضوء فى محاولة لدق إسفين بين الصين والعالم الإسلامى. وكأن الميديا الغربية لا ترى كشمير أو فلسطين، فلا ذكر لهما إلا على الهامش، وكأن جرائم لا ترتكب وحقوق لا تضيع أمام أعين الناس، ولكن لا يبصرون. وقد تتوسع الصين فى علاقتها العسكرية مع المنطقة، ولكن ذلك لن يكون كما هو متصور، توسعا فى التعاون العسكرى، وإنما قد يكون توسعا فى بيع الأسلحة.
●●●
الشاهد أن الصين لاعب اقتصادى عالمى، وليست لاعبا أمنيا عالميا. ولكن تلك الشعرة الفاصلة بين الدورين الاقتصادى والأمنى توشك أن تتلاشى عبر مسألة لم تكن فى الحسبان، وهى مسألة بيع البترول السعودى باليوان الصينى. فلو فعلتها المملكة وسعرت البترول وباعته بأى عملة غير الدولار، فإن ذلك يعد انقلابا اقتصاديا عالميا. فلا الدولار سيستمر بنفس قوتها، ولا اليوان سيتحول لعملة تحل محل الدولار. ولكن بالأحرى استقرار المملكة سيصبح على المحك. فلن تسكت الولايات المتحدة عن تقويض واحد من أساسيات قوة الدولار، مع الأخذ بالاعتبار أن الولايات المتحدة هى نفسها تريد استبدال بترول وطاقة الخليج بطاقة أخرى جديدة ومتجددة أكثر صداقة للبيئة. لكن لم يحن الوقت لعمل هذا التحول بصورة نهائية. ولذلك لو استبقت السعودية السياسة الأمريكية وأدخلت اليوان الصينى فى بيع البترول إضافة إلى الدولار الأمريكى، فإن هذا إعلان بتحول اقتصادى عالمى، يبدأ من سوق الطاقة، وسيصل بسرعة البرق إلى سوق العملات، ثم ينعكس على التوازن التجارى العالمى، وسيكون له كلفة وتبعات سياسية هائلة.
ولكن ماذا لو لم يتم بيع البترول باليوان سواء الآن أو فى المستقبل القريب؟ إذا سيكون اللقاء حدثا كبيرا إعلاميا ولكن بدون تغيير على الأرض. فلن يستفاد منه الطرف العربى، أو بالأحرى السعودى إلا عن طريق إرسال رسالة لمن يعنيه الأمر بأن السعودية تملك ورقة قوية تجابه بها تحديات مستقبلية، إذا ما قررت عمل نقلة فى الاقتصاد العالمى. أما على مستوى الشارع العربى فقد تجد من يسأل، ولماذا تبيع السعودية البترول بالدولار أو باليوان، ولماذا لا تبيعه بالريال السعودى؟ هذا السؤال البديهى يقابله سؤال آخر ظهر بعد وصول المغرب لدور الثمانية فى كأس العالم، مفاده، إذا كان المغرب استطاع تحقيق هذا الإنجاز على يد مدرب وطنى فلماذا اللجوء أو الاستعانة بالمدربين الأجانب؟ ألا يوجد مدربون وطنيون أكفاء؟ لماذا لا نعتمد على كوادرنا البشرية ونمنحها الثقة التى تحتاجها؟ لماذا لا نراجع أيضا ما نظن أنه أمر من ثوابت الاقتصاد؟ ولماذا نلجأ تلقائيا لحلول مستوردة من الخارج؟