الضريبة العقارية من واقع التجارب الدولية - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:38 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الضريبة العقارية من واقع التجارب الدولية

نشر فى : الإثنين 13 أغسطس 2018 - 9:20 م | آخر تحديث : الإثنين 13 أغسطس 2018 - 9:20 م

كثر الجدل أخيرا حول الضريبة العقارية: فلسفتها، عدالتها، حصيلتها، آليات تطبيقها، إعفاءاتها... لكن السؤال المتكرر فى كل أحاديث وسائل الإعلام كان مداره: هل هى ضريبة جديدة أم لا، وهل نحن الوحيدون الذين يطبقونها أم لا؟!..بالتأكيد حملنى هذا على مطالعة عدد من الأوراق والمسوح المنشورة فى هذا المجال، خاصة تلك التى تشتمل على تحليل مقارن بين عدد من الدول والأقاليم. من أقيم الأوراق التى قرأتها فى هذا السياق دراسة مسحية مقارنة لـ«ريتشارد بيرد» و«إنيد سلاك» بعنوان: «ضريبة الأرض والملكية» نشرت فى مارس 2002، ويمكن الحصول عليها مجانا من شبكة الإنترنت. الورقة احتوت على دراسات حالة لعدد 25 دولة تنتمى ــ بتوزيع متساوى العدد ــ إلى خمس مناطق تغطى مختلف المستويات الدخلية للدول المبحوثة، وهى مجموعة منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية OECD، دول وسط وشرق أوروبا، آسيا، إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
بصفة عامة يمكن القول بأن الضريبة العقارية هى واحدة من أقدم الضرائب التى عرفها المجتمع البشرى، وهذا فى ذاته سبب لاتهامها من قبل الكثيرين بكونها ضريبة رجعية، لا تميز بين الغنى والفقير بشكل كاف، ولا تراعى عدالة توزيع العبء الضريبى. كذلك تخلص مختلف الدراسات إلى كونها واحدة من أقل الضرائب شعبية، وأكثرها عرضة للنقد، نظرا لطبيعتها التحكمية فى تقدير وعاء وسعر الضريبة، وحدود الإعفاء وطرق الاحتساب... كذلك تعد الضريبة العقارية سواء على الأرض فقط أو على الأرض ومبانيها مصدرا محدودا لإيرادات الحكومات المركزية، ومصدرا أهم وأكثر قيمة للإيرادات الضريبية للحكومات اللامركزية.
ولأن الضريبة العقارية من الضرائب المنظورة visible فإن الممول يشعر بها ويشارك بشكل مباشر فى عملية تقديرها وتحصيلها، فهى ليست ضريبة على الدخل يتم خصمها من المنبع، وكذلك هى ليست ضريبة على إيراد محقق أو تدفق، بل تفرض على رصيد وأصل لا يدر دخلا بالضرورة. كل ذلك يخلق صعوبة سياسية فى فرضها وتسويقها لقاعدة الممولين، ويخلق صعوبة مالية واقتصادية فى التطبيق العملى لفرض الضريبة.
***
من واقع التجارب الدولية يجب أن يسبق فرض الضريبة العقارية خطوات تمهيدية كثيرة وإلا فشلت فى تحقيق أغراضها، والتى عادة ما تتمثل فى زيادة إيرادات الحكومة، وتحسين استغلال الأصول العقارية، ناهيك عن الهدف المعلن باستمرار والمتناقض مع التطبيق العملى، وهو تحقيق العدالة الضريبية، خاصة أن عبء هذا النوع من الضرائب كثيرا ما يقع بنسبة أكبر على فئة الممولين الأقل ثراء، والدليل أن بيت الأسرة المستقل غالبا ما يقدر بأقل من قيمته السوقية كوعاء للضريبة، فى الوقت الذى يرتفع فيه تقدير العمارات السكنية متعددة الأسر، وكذلك تعفى فى مختلف الدول العقارات التى تستخدمها الحكومة على الرغم من أنها أكثر انتفاعا بمرافق الدولة من العقارات السكنية. وأيضا تتعرض العقارات المستغلة لأغراض تجارية وصناعية لضريبة أكبر على الرغم من أن الاستخدام السكنى للمرافق العامة يكون أكثر كثافة.
الخطوات والمتطلبات التمهيدية لفرض الضريبة العقارية تفوق الحملات الإعلانية ونشرات التوعية بالطبع! لكنها تقتضى تحقيق الاطمئنان لدى الممولين فى عدالة تقدير وتحصيل الضريبة، عبر توافر سجل عينى موثوق به، وقواعد بيانات شديدة التفصيل والدقة، ووضع آليات ومعادلات شفافة لتقدير وعاء الضريبة (التجربة الإنجليزية تقدر القيمة السوقية للأصول العقارية عبر 8 نطاقات bands يمثل كل نطاق شريحة للحد من التفاوت والتقديرات التحكمية).. هذه المتطلبات وغيرها نادرا ما تتوافر لدى غالبية الدول النامية!.
هذا يقودنا إلى فلسفة فرض الضريبة بغض النظر عن أهدافها الحقيقية، فالحكمة المعلنة يجب أن تبرر فرض الضرائب، كما أن فرض الضرائب على عمومها تبرره حكمة التمثيل النيابى، فالقاعدة الدستورية الأشهر عالميا هى: «ألا ضرائب بغير تمثيل». قياسا على ذلك فلكل نوع من الضرائب فلسفته الخاصة، وهى بالنسبة للضريبة العقارية ما يتعين على الممول تحمله من أعباء نتيجة انتفاعه بمرافق الدولة، التى تحسن من قيمة عقاره الإيجارية والرأسمالية السوقية (وهما طريقتان لتقدير الوعاء الضريبى لهذا النوع من الضرائب بخلاف طريقة المساحة). هناك إذن ارتباط وثيق بين الضرائب العقارية المقرر فرضها بحكم القانون 196 لسنة 2008 وبين مقابل التحسين وإتاوات تعديل النشاط التى تحصل عليها المحافظات (وهى بمثابة حكومات لامركزية) تطبيقا للقانون 222 لسنة 1955 دون الدخول فى مدى صحة هذا التطبيق (رجاء العودة إلى مقالنا المنشور فى الشروق بتاريخ 8 يناير 2018 بعنوان إتاوة تعديل النشاط). كذلك هناك شبهة للازدواج الضريبى بين عدد من الضرائب والرسوم والإتاوات ذات الطبيعة المتصلة بالخدمات الحكومية، وتحسن القيمة السوقية للأراضى والعقارات. وهذه الأزمات ليست خاصة بالتطبيق المصرى فحسب، بل إن القاعدة فى الضرائب العقارية أنها تميل إلى التعقيد والمحلية كى تنشد العدالة، كما هى الحال فى النظامين الألمانى والكندى وعدد من الدول المتقدمة. لكن هذا التعقيد مكلف للغاية بما يجعل العائد الضريبى الصافى للحكومة منخفضا نظرا لارتفاع التكاليف الإدارية لعمليات الحصر والتصنيف والتقييم والتحصيل.. كذلك فإن الاقتصادات النامية والناشئة تفضل المركزية فى التقدير والتحصيل، لأنها تستهدف حصيلة ضريبية أكبر وليس توزيعا أفضل للأعباء، والتجارب الحديثة الناجحة فى هذا محدودة ولا تكاد تخرج عن تجربتى شيلى ولاتفيا (وفقا للورقة البحثية المشار إليها سابقا).
بالنسبة لمجموعة الدول النامية التى اشتملت عليها دراسة «بيرد» و«سلاك» لا تمثل حصيلة الضرائب على الأراضى والممتلكات العقارية أكثر من 0.4% من ناتجها المحلى الإجمالى و2% من إجمالى الإيرادات الضريبية بها خلال عقد التسعينات كله، والذى شهد انخفاضا يسيرا فى تلك النسب مقارنة بعقود سابقة. بينما لم تتجاوز نسبة الضرائب العقارية إلى كل من الناتج المحلى والإيرادات الضريبية لمجموعة OECD المتضمنة فى الدراسة عن 1% و4% على الترتيب.
على المستوى المحلى اللامركزى ساهمت الضرائب العقارية خلال عقد التسعينات بنحو 40% من إجمالى حصيلة الضرائب «المحلية» فى الدول النامية وبنحو 35% من تلك الحصيلة فى الدول المتقدمة (صعودا من 30% فى عقود سابقة). الضرائب العقارية تحظى بأهمية وانتشار فى الدول الغنية المتقدمة أكثر من الدول النامية والمتحولة، المعدل الأكبر لتلك الضريبة رصد فى كندا بواقع 4,1% يليه فى الترتيب معدل الضريبة فى الولايات المتحدة الأمريكية الذى بلغ 2,9% ثم أستراليا بمعدل 2,5% وهى ليست مصادفة أن الدول الثلاث تحكمها أنظمة فيدرالية، ومن ثم فالبعد المحلى للضريبة العقارية شديد الوضوح.
***
الأراضى الزراعية والبيوت السكنية الخاصة الوحيدة عادة ما تعفى تماما من تلك الضريبة، والمناطق الحضرية هى الأكثر تحملا لعبئها، لكن أى زيادة فى سعر الضريبة يجب أن يتم أولا عبر تحسين تغطية وأدوات التقدير والتقييم، وزيادة دورية التقييم (والذى كثيرا ما يكون تقييما ذاتيا بمعرفة الممول)، وعدم فرض أعباء تحسين جديدة على العقار إلا بعد بيعه من مالكه المسدد الحالى للضريبة، بينما ينتفع هذا المالك الممول من كل انخفاض يطرأ على القيمة السوقية للعقار على الفور! هذا من شأنه أن يثير عددا من التساؤلات والمخاوف فى الحالة المصرية. صحيح أن هناك دافع إيجابى تخلقه الضريبة للتخلص من مخزون العقارات الراكدة والمسقعة، واستغلالها بما يساهم فى حل أزمة السكن ويقضى على الفقاعة العقارية تدريجيا، لكن أيضا هناك دافع سلبى لإفساد المناطق السكنية بيئيا وحضاريا بخسا لقيمتها السوقية، وزيادة تركز وكثافة العقارات على الأرض حال فرض الضريبة على الأرض دون العقار. فكيف يتم ضبط هذه المسألة؟ كذلك هناك خطر أخلاقى تتعارض فيه مصداقية الدولة ومؤسساتها مع فلسفة فرض الضريبة، إذ إن كثيرا من المواطنين استجابوا إلى نداءات الدولة المتكررة، فخرجوا من المدن القديمة كثيفة السكان إلى ضواحى أكتوبر والتجمع الخامس ومثيلاتها، وتحملوا فى سبيل ذلك مشقة البعد عن العمل وتكاليف الانتقال.. فضلا عن الأعباء الاجتماعية والنفسية. لكن الدولة اليوم سوف تخضع عقاراتهم لوعاء ضريبى كبير يمثل فى جانب منه عقوبة خفية على امتثالهم لنداءاتها! وهم يعاقبون مرتين، مرة بفعل فقاعة عقارية لم يكونوا السبب فى خلقها بل حدثت أساسا بفعل اهتزاز الثقة فى مختلف أوعية الاستثمار البديلة، ومرة بفعل خضوعهم الحتمى للضريبة العقارية على مسكنهم الخاص «المستغل» من قبل الأسرة لأن السعر السوقى لعقاراتهم ــ التى لا تدر دخلا ــ تجاوز فى مختلف المناطق الجديدة حد الإعفاء أو أوشك على تجاوزه!.
أدعو إلى مزيد من الدراسة لفلسفة ومتطلبات فرض الضريبة العقارية، وكذلك التكاليف الإدارية المباشرة وغير المباشرة، مقارنة بالعائد المتوقع من التحصيل، مع تقدير هامش التهرب والتحايل، وسد مختلف أبواب الفساد المحتملة فى عملية التقدير للقيمة السوقية الرأسمالية أو الإيجارية، قبل المضى قدما فى تحصيلها بحجة انها تشبه ضريبة العوائد القديمة!.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات