نعم أخاف الكوليرا.. ولكنى أخشى «الخوف» أكثر - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 3:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نعم أخاف الكوليرا.. ولكنى أخشى «الخوف» أكثر

نشر فى : الأحد 13 نوفمبر 2022 - 10:05 م | آخر تحديث : الأحد 13 نوفمبر 2022 - 10:05 م
كلما تغوص فى زحمة الشوارع والجسور والأبراج، كلما يأخذك الحنين لذاك الوقت غير البعيد عندما كان البحر هو جار الطريق وجار المنزل وهو الجار السابع للمكتب وهو أيضا لا يبعد سوى مسافة بسيطة ليتحول إلى بحر ممتد فى أفق لا منتهى..
• • •
تسلى النفس إن كان البحر اختفى أو تلاشى أو «خُصص»؟، ولكن يبقى هناك مد طويل من الحب والجمال على هذه البقعة الصغيرة جدا من الأرض تُمنى النفس أحيانا أو ربما تطمئنها أو تهدئ من ذاك الفزع على تضاؤل مساحات الجمال بكل أنماطه وعلى التعلق أو الإعجاب المفرط بذاك النموذج المصطنع بل ربما المشوه، والذى تحول مع الوقت وبفعل سحر الدعاية المتطورة إلى مكان يلهث البشر للحج إليه طوال العام.. كلهم أصبحوا ذاك النادى الذى يسمى بلدا! ذاك الذى استطاع أن يجمع كل البشاعات فى التعامل البشرى وليس فقط فى البناء والمعمار، ومع ذلك حافظ على لقب «الأكبر» «الأعلى» «الأطول» «الأعمق» وووو وكأنه سباق لجنس وليس بلدا به بشر وبعض من تاريخ.
• • •
فى ابتعاد البحر عن الجزيرة مؤشر لابتعاد كل ما كانت عليه، فتدريجيا تتحول هى إلى غابات من الأبراج والأحياء غير المخططة بشكل علمى والطرقات السريعة وطبعا طبعا كثير من المجمعات التجارية حتى أصبحت هى مكانا للقاء والرياضة والتسلية والبحث عن آخرين وأيضا مجالا للتفاخر فيما يبرز السؤال ما سبب تفاخر بعض أو كل دولنا بالمراكز التجارية، ما هو الإبداع أو الاختراع فيها؟ ما هى سوى مراكز أخرى لتعزيز المزيد من الاستهلاك والقليل من العقل فى وقت أصبح السائد هو أن لا تتكلم سوى عن المسموح به أو لنقل المقبول من قبل العقل الجمعى للحكم وبعض المجتمع الذى أصبح أحيانا أسوأ وأكثر رقابة ودفاعا ونفاقا من الحكم نفسه!
• • •
سكان هذه الجزيرة المدافعون عنها هم الأكثر بحثا عن فرصة للهروب منها والسفر إلى أى مكان كان وكأنها تخنقهم أيضا كما هم، والحاكمون بالأمر يخنقون النفس والكلمة ويسجنون الفكرة فى زنازين أكثر عتمة من سجن القلعة سابقا! ولا لوم عليهم فقد يكونون أيضا ضحية لكل ذاك الضخ اليومى من الإعلام المغلوط حتى لا نقول الكاذب والمنافق والمسير لمصلحة شريحة واحدة فقط ضد الوطن.. هم جميعا ضده ولم يبقِ له، أى الوطن، سوى فقرائه وليسوا جميعهم أيضا فكثير منهم هم أكثر ضحايا الضخ المستمر للمعلومات الناقصة والمغلوطة التى تبعث على التفرقة وتقسيم المقسم وتفتيته وهى نفس التهم التى يوجهونها للمعارضين الذين حوصروا حتى فى بيوتهم الضيقة والمساحات المحدودة المتاحة لهم عبر وسائل التواصل. فالتغريدة والهمسة والرسالة القصيرة ثمنها الباهظ جدا الذى قد يكلفك جواز سفرك أو حتى جنسيتك..
• • •
إنها الأرض العربية تضيق بساكنيها من الأحرار المعروفين للمجتمع باسم «مجانين» أو «متعصبين» أو مضحوك عليهم أو «قومجية» «ناصريين» إلخ إلخ إلخ تكثر الألقاب والتسميات وتبقى النتيجة واحدة هى العزلة فى أضيق مساحة حتى يصبح الصوت المختلف عن السائد «عورة»! فيطفح الزبد من البشر وينتشرون على الشواطئ وحتى فى الأزقة والشوارع والحارات وطبعا فى «الكمبوندات» والفلل الفخمة وخاصة منها التى تملك أن تكون فى حضن البحر أو على مقربة منه بعد أن تم تخصيصه هو كما خصص التعليم والطب وحتى الحب والعشق تحولوا جميعا إلى مشاريع قابلة للربح بما فى ذلك المشروع الربحى الأكبر، فإما أن يكون «مالا يتزوج مالا» أو مالا يرفع من لا مال له!
• • •
تبقى هناك بقع متفرقة من بعض البلدان العربية التى لا يزال الحديث فيها فى الأماكن العامة متاحا دون التلفت يمينا وشمالا والبحث عن جهاز هنا أو عين هناك.. راح زمن المخبر المتخفى خلف الجريدة بمظهره المضحك وأصبح الواتساب وإخوته وسيلة للتنصت على أحاديث البشر حتى وهم متحلقون حول مائدة عشاء يبحثون عن دفء هنا أو بسمة هناك.. حتى هنا عليهم وعليهن أن يكونوا حذرين فكل ما يقال يسجل وكله بثمنه!
• • •
تبقى بيروت رغم الخراب والدمار والانفجار وسقوط الليرة ليصبح الدولار بأربعين ليرة حسب التوقيت واليوم! والتلوث والأمراض وأخيرا الكوليرا عندما يشح الماء أو يتلوث وتعتم المدينة بسبب عدم توفر الكهرباء، والقائمة فى بيروت طويلة ولا يقصر الإعلام العربى وخاصة المتلفز منه واللبنانى أيضا بالاسترسال فى ذلك ربما لهدف ما أو ربما لجهل ما! فيما فى بيروت لا يزال البحر ملكا للجميع فى عاصمة الجمال التى كتب لها أن تدافع ككل المدافعين عن الحريات والحقوق ثمنا باهظا لذلك. يتريض فى الصباح الباكر كثير من اللبنانيين وآخرين يلعبون أو يصطادون السمك والكل يتحدث بأعلى صوتا معلنا عن موقف سياسى لا يتصور هو أنه قد يدخله سجونا عربية كثيرة.. فى بيروت لا خوف سوى من التفجيرات والرصاص الطائش أو غير الطائش أما كثير من الحريات الأخرى فهى كالكتب متوفرة فى كل زاوية وحول كل موائد العشاء فى المطاعم البسيطة منها وحتى الفاخرة.. يسألونك «ألا تخافين الكوليرا؟» وتبدو الإجابة غريبة «نعم أخاف الكوليرا ولكن الخوف من عقلية القطيع ومن أن الفكرة قد تكون طريقا للتهلكة والعزلة إن لم تكن السياسية فقد تكن المجتمعية.. هذا يخيفنى أكثر من الكوليرا بالتأكيد»..
خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات