تأملات فى رحاب «السيرة» العطرة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:07 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تأملات فى رحاب «السيرة» العطرة

نشر فى : السبت 14 سبتمبر 2024 - 9:20 م | آخر تحديث : السبت 14 سبتمبر 2024 - 9:20 م

`(1) 

أحب «السيرة النبوية» حبًّا لا يدانيه حب! أول ما قرأت فى حياتى، وأول ما تعرفت على نص مكتوب، وكتابٍ مصور، وخيال اشتعل مبكرًا شغفًا وفضولًا بسيرة ذلك الهادئ الوديع راعى الغنم.. يتيم الأبوين والجدين الذى يحب العزلة والتأمل، ويخرج للاعتكاف والتعبد فى غار حراء وحيدًا صامتًا متأملًا. 

أحببتُ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حبًّا عارمًا، فلم يكن فى حياتى فى السنوات الأولى من النشأة سوى سيرته الشريفة، وقصص الأنبياء، وتشبعتُ بحب السيرة، واستشعرتُ مبكرًا مغزى العظمة الإنسانية والسمو الأخلاقى والدعوة السمحة فى كل موقف رُوى عنه صلى الله عليه وسلم.  

كبرت وتحولت المتعة المجردة إلى بحثٍ منظم، وقراءات منظمة، وتحليلات ومقارنات، وآراء وروايات، ولم يقل شغفى ولا حبى بمعاودة القراءة والذهاب إلى سيرته صلى الله عليه وسلم من حينٍ إلى آخر، أتفيأ ظلال المحبة والكرم والتواضع، ظلال التعاطف والتسامح..  

أتنقل بين الكتب التى دونت سيرته من ابن اسحق وابن هشام وأضرابهما إلى الكتب المعاصرة التى ألفها أعلام الفكر والأدب والثقافة فى القرن العشرين، وكلها يجتهد فى إبراز عظمة الرسالة والرسول، ورسم صورة رائعة لمعجزة النبى صلى الله عليه وسلم الإنسانية والأخلاقية والروحية، وكيف استطاع بدعوة المحبة والسماحة أن يقاوم الفظاظة والخشونة والقسوة وضيق الأفق والتعصب. 

(2) 

تشهد سيرته العطرة الطيبة بأنه كان مثالًا للأمانة والصدق والتورع ــ قبل الوحى وبعده ــ فحياته قبل البعثة كحياته بعدها، عظة وعبرة وهداية ومثل أعلى لمن رام الطريق القويم. 

يقول الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الراحل إن من يتدبر حياته صلوات الله وسلامه عليه، قبل البعثة، ولا يكون عنده فكرة صحيحة عن «النبوة» من حيث إنها لا تُكتسب اكتسابًا، وإنما تُوهب من الله تعالى.. يكاد يعتقد أنه اقتنص اقتناصًا، واضطره إلى النزول اضطرارًا، وأنه أبى إلا أن يظفر بما يريد، فكان ما أراد. 

بيد أن الصواب ــ والحديث ما زال للدكتور عبد الحليم محمود ــ هو أن الله اصطفاه وفضله على العالمين، عندما حان الموعد الذى حددته العناية الإلهية لتتجلى عن طريق اختياره رسولًا. 

حينما شارف محمد الأربعين، وذهب إلى غار حراء يتعبد ويتنسك، وقد امتلأت نفسه إيمانًا بما رأى فى رؤاه الصادقة، وقد خلصت نفسه، وأدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد اتجه بقلبه إلى الصراط المستقيم، وإلى الحقيقة الخالدة، وقد اتجه إلى الله بكل روحه، وأسلم أمره كله إليه عز وجل، فاستحق أن يقول عنه ربه «وإنك لعلى خلق عظيم». 

والخُلُق هنا بمعنى مكارم الأخلاق من لين وسماحة وأدب، وكفّ الأذى عن الناس، وتحرى العدل واجتناب الظلم وإشاعة السلم والسلام والقبول للآخر دون تزيد أو تكلف أو ادعاء. صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله. 

(3) 

فى «السيرة» أستجلى مواقف العظمة، والسمو، والبلاغة والجمال.. هناك سطور تقرأها يدعو فيها النبى ربه فلا تملك إلا أن تستودعها قلبك، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينك ومحبتك للنبى وتقديرك للجمال والإنسانية.. وهل أنسى ما توجه به صلى الله عليه وسلم إلى ربه بهذا الدعاء الأخَّاذ، حينما ذهب (صلى الله عليه وسلم) للطائف يدعو إلى ربه، فأوغروا إلى سفهائهم وأشرارهم بالنيل منه، فسخروا منه وعابوه وسبوه وجروا وراءه فى الطرقات يقذفونه بالطوب والحجارة، فلم يكن منه (صلى الله عليه وسلم) إلا أن دعا ربه بالدعاء الذى أحفظه ويحفظه غيرى عن ظهر قلب: 

«اللهُمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قوَّتى، وقلةَ حيلتى، وهوانى على الناسِ، يا أرحمَ الراحمينَ إلى منْ تكلُنى؟ إلى عدوٍ يتجَهَّمُنى، أمْ إلى قريبٍ ملَّكتَهُ أمرى؟ 

إن لمْ يكنْ بك غضبٌ علىَّ فلا أُبالى، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هى أوسعُ لى، أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذى أشرقتْ لهُ الظُّلُماتُ، وصلُحَ عليهِ أمرُ الدنيا والآخرةِ، أن تُنزلَ بىَ غضبَكَ أو تُحلَّ علىَّ سخطَكَ، لكَ العُتْبى حتى تَرضَى ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك». 

وجاءه الأمر الإلهى بالخروج والهجرة، فقال قولته الخالدة الموحية «ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت». لم يسبّ أحدًا بفاحش من القول.. ولم يجزّْ رقبةً بغير نفس.. ولم يغدر، ولم يخن، ولم يزهق أرواحًا بريئة.. 

هذا هو الرسول الذى أحبِّه وأصلِّى وأسلم عليه.. الرسول الكريم الذى لم يدعُ أبدًا إلى إرهاب الناس، أو الفظاظة فى التعامل معهم، أو الإساءة إليهم مهما كان حتى لو كانت الإساءة له شخصيا أو لم يقل رب العزة فى حقه ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.. 

كم أحب هذه الآية، كم أرى فيها تنفيرًا إلهيا من الفظاظة والقسوة وجهامة الحضور وسوء الخطاب!  

صلوات الله عليك يا رسول الله.. صلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين الداعى إلى سلام البشرية، وكمال الدين بتحرير العقل