لم يكن بالإمكان أن ترحل شيرين كما يرحل الآخرون والأخريات.. بعض قماش وكفن.. لم يكن بالإمكان أن تبعد عن تراب أرضها الطاهرة التى سقيت بكثير من دمائهم، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا، وكثيرا من الشباب حاملى أكفانهم على كفوفهم وماضين فى مواكب مهيبة إلى جنات الخلد.
• • •
هى التى ظلت تردد أنها نجت من موتهم مرات ومرات وحمتها السماء والملائكة من رصاصهم الذى يقنص كل قلب ينبض بحب تلك الأرض الطاهرة.. شيرين التى دعست فوق كل شبر من أرض فلسطين وكل زاوية وكل حجر عرفها جيدا وسمع صوتها الباكى على أرض اغتصبت وعلى أرواح أبت إلا أن تفدى تلك الأرض فى أفواج بل ربما تسابق عل من يرحل من أجل وطن لا يشبه أى وطن آخر بل ربما هو أوطان فى وطن.
• • •
شيرين وأنت مسجية تحت تلك الشجرة وفوق تراب تلك الأرض التى لم ترحلى إلا وأنت تقبلينها كما اعتدنا أن نراهم جميعا.. جاء صوتك فى أحاديثنا ولقاءاتنا المتكررة كلما كنت فى القاهرة أو مررتِ بها.. كثير من كلماتك بقيت معى وضحكتك التى وقفت تتحدى رصاصهم وقناصتهم ودباباتهم ومستوطنيهم وكل حقدهم.. مرت صور من ذكريات كثيرة ومضى وقت بقيتِ أنت كما رددتِ فى أحاديثنا «لا أستطيع أن أغادر فلسطين التى تسكننى ولا أبعد عنها حتى فى زيارات إلا القصيرة منها». تعود للقدس ورام الله وجنين وبيت لحم وكل شبر وشجرة زيتون وزعتر.
• • •
كم أبكانا استشهادك برصاصة قناصهم الحاقد تلك التى استقرت فى رأسك الذى طالما أثار غضبهم وحقدهم عليك وعلى كثير من زميلاتك وزملائك؛ من بدأ معك كجيفارا ومن تمنى أن يلتحق بركبكم فيتعلم منك ذاك العشق للأرض الذى يدفعك لتكونى أول الواقفين والواقفات على رأس أى حدث وأول من يتقدم الصفوف لنشر الصورة كما هى دون رتوش ولا تزيين ولا مبالغة وبمهنية لا يعرفها من يدعون أنهم علمونا الصحافة الحق!
• • •
شيرين عرفتِ ذاك الدرب للنضال ومشيتيه محتمية بإيمان وإصرار وقناعة وعشق لفلسطين الوطن والقضية.. جاءت السترات الصحفية والخوذ الواقية بعد ذاك وبعد أحداث وأحداث كنت تخافين عليهم أكثر من خوفك على نفسك وحياتك ووقفتِ تنقلين الصورة كما هى بينما يعملون هم بكل تقنياتهم المتطورة لتزوير الحقائق كما كل المغتصبين أو من بقى منهم. أليسوا آخر أشكال الاحتلال المتبقية على وجه الأرض؟
• • •
زاد غضبهم وحقدهم عليك بعد أن تصوروا أن امتلاكهم وسيطرتهم على كل المتاح من وسائل للتواصل ونقل الخبر أينما كان من أول نقطة حتى آخرها على وجه البسيطة.. كنا نتحدث عن مدى رعبهم وهم خلف عدادهم وعدتهم من صوتك والصورة التى تنقلين مهما عملوا وجهدوا لإخفائها وتشويهها.. كلما حولوا الضحية إلى مجرم أو إرهابى وقفتِ أنت خلف عدسة كاميرا وفى يدك الطاهرة ميكروفون ترسمين الصورة عبر نبرة صوتك الدافئة وتدحرين رواياتهم وكذبهم المستمر بكثير من الهدوء ربما هو هدوء المؤمنة بقضيتها ووطنها المحتل.
• • •
جلسات القاهرة السريعة تعود لتذكرنى بأحاديثنا عن عشقك للأرض وللمهنة فلم تكونى يوما صحفية عابرة ككل العابرات والعابرين وهم كثر.. المهنية التى نقلتيها هى حرفية المؤمن وليست تلك التى علمونا إياها فى جامعاتهم ومحاضراتهم المتكررة عن الموضوعية وحرية التعبير والدفاع عن حقوق الإنسان.. فقد فضحتِ بتغطياتك مدى كذبهم ونفاقهم وازدواجية معاييرهم.
• • •
شيرين ستبكيك الأرض شبرا شبرا من النهر إلى البحر وستبقى العصافير فوق شجر فلسطين تنتظر قدومك لتحرسك كما كانت دوما ويبقى صوتك الأقرب والأكثر وضوحا وإصرارا وصمودا وحضورا فيما يبقى المطبلون والمطبعون على هوامش الحياة وفى مزابل التاريخ. كما جميل أن توحدينا فى غيابك كما فى حضورك ونقلك للأحداث.. ارقدى بهناء هناك بين الملائكة التى أنت أقرب لها من بشر مغمسين بالحقد والجهل والضغينة.
ارقدى شيرين الشهيدة حاملة ابتسامتك وهدوئك، وانعمى فقد كنت خير امرأة وإنسانة وصحفية وفلسطينية مخلصة لقدسها وأرضها.. ارقدى وأنت الحاضرة دوما بل الأكثر حضورا من أى منهم ومنا.
أقبل جبينك وأتمنى أن تغفرى لى وتعذرينى لأنى لم أودعك كما يليق بالشهيدات والعاشقات لأوطانهن.. لفلسطين.