حركة غير عادية يضطرب بها الشارع الفرعى فى الحى السكنى الهادئ الذى يقع فى القلب من مدينة السادس من أكتوبر غرب القاهرة. سيارات نقل محملة بمواد بناء، عمال بناء يرفعون على أعناقهم كمية كبيرة من السيراميك المناسب لتمهيد الأماكن المفتوحة، عمال الزراعة يخرجون بقطع كبيرة من النجيل المنزوع من أرضية بعض الحدائق، علما بأن كل الوحدات السكنية فى ذلك الشارع قد تم تشطيبها بشكل جيد، وتجرى صيانتها بانتظام، فما هى يا ترى الحاجة إلى كل ذلك الاضطراب؟!
الحى لا تستعمره ناطحات السحاب ولا الكتل الخرسانية الشائهة، التى انتشرت بغير جمال ولا انتظام كالورم الخبيث فى مختلف أرجاء المعمورة. الدعوة القديمة لغزو الصحراء والهروب من العاصمة المنخنقة بالملوثات والتكدس السكانى، كانت قد لاقت قبولا لدى ساكنى هذا الحى، الذين نزحوا إليه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى. كانت محفزات الانتقال الصعب بعيدا عن العاصمة العتيقة، تتهافت على تقديمها شركات التطوير العقارى التى حققت المليارات من المكاسب بمجرد حصولها على الأراضى المرفقة، والبدء فى بيع الوحدات السكنية على الخرائط وقبل أى تنفيذ. ثم نجحت فى ضربات متلاحقة أن تحصل على الموافقات لتغيير المخطط العام ذى المساحات الخضراء الكبيرة نسبيا، من أجل فرض أبنية سكنية وتجارية إضافية تضاعف بها الشركات مكاسبها وأرباحها بغير أفق ولا منتهى!
وعلى الرغم من جشع الشركة المنفذة للحى، وانتزاعها للأراضى من المخطط الأصلى لتجريفها وتحويلها إلى مركز تجارى جديد، يضاف إلى عشرات المراكز التى تغص بها المدينة الناشئة! فقد بقى شىء مقبول من الخضرة والأزهار تتنفس به رئة المنطقة، تدافع به العوادم والقبح المستشرى. تنتشر بعض الحدائق العامة فى الحى الهادئ، وتحيط الحدائق الخاصة بالوحدات السكنية من عمارات وفيلات بشكل جميل يحافظ على صيانته السكان، على الرغم من تحملهم الكثير من الأموال على سبيل دعم ما يسمى بـ«وديعة الصيانة» تلك التى يتم تحصيلها من مشترى الوحدات أول مرة على اعتبار أنها يتم تنميتها ذاتيا، ثم تلجأ الشركات المنفذة ومن بعدها اتحادات الشاغلين إلى مطالبة السكان بأقساط شهرية وسنوية لدعم تلك الوديعة باستمرار، وكأنهم يدفعون إيجارا على سكنهم الملك!
• • •
نعود إلى الحركة المريبة فى الشارع الفرعى الذى يطل عليه مسكنى. سألت مدير الحى عن سببها وما عساه يحدث فى بيت الدكتور «فلان» فقال لى ما أدهشنى حينها أشد الدهشة: «يا دكتور إنهم يبلطون الحديقة»! ثم أردف: «لقد تم تجريف حديقة البيت بالكامل واستبدال النجيل والأشجار والزهور بهذا السيراميك الفاخر»... فى البداية لم أصدق الرجل وظننت أنه يخرف، أو يرجم بالغيب. الحديقة جميلة غناء تنتشر بها أشجار الفاكهة والزينة المورقة، وترتادها الطيور من مختلف الأصناف، فهى جنة وهبها الله الحياة وحفها بالنخيل ولم يجعل ماءها غورا، فصاحبها قد أوتى سعة من العلم والمال، ولا أحسبه يدخلها إلا قائلا بلسان الحال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
تحدثت إلى جارى صاحب الجنة، وعلمت منه صحة المعلومة التى نقلتها إلى إدارة الحى! فى البداية ظننت أنه أمر خاص بإعادة استغلال المساحات فى البيت، وربما أراد الرجل أن يستخدم أرض الحديقة فى تخزين بعض المواد التى تضيق بها مخازن شركة الدواء التى يمتلكها! لكنه أمر مستبعد فما أغناه عن هذا التصرف الغريب، وكيف يقدم على اغتيال تلك الحياة الكاملة بيديه وبإرادته، لمجرد إعادة تخصيص المساحات لأغراض لم تخلق لها. شعر جارى بحيرتى واستحيائى من المضى فى الاستفسار، ولم يدعنى فريسة لنظرية الاحتمالات، فتابع مفسرا ومبررا بما مفاده أن تكلفة الرى لم تعد محتملة، وأنه يفعل كما فعل عدد من جيراننا سكان الحي! وعلى الرغم من أن جارنا ميسور الحال وقد أعد شبكة للرى الحديث لتوفير المياه والمحافظة عليها، فإن هذا لم يقلل من معاناته الاقتصادية فى عملية الرى شيئا.
الحدائق يجب أن تروى بالماء العكر، وهذا يتعين على الدولة إتاحته بسعر مخفض، أو فى القليل تسمح للسكان بحفر آبار جوفية فى أراضيهم للاستعمال فى أغراض الرى. الواقع يخالف ذلك؛ فالحدائق يخصص لها عداد خاص وتجهيزات مستقلة عن الاستخدام السكنى، لكنها فى الواقع تأتى من ذات المصدر ولا يوجد أى اختلاف! فرى الحدائق يتم بماء عذب فرات، وتكلفته تفرض على مستخدميه بضعف سعر المتر المكعب من الماء المخصص للاستخدام السكنى. فالساكن إذن يعاقب بشكل مركب؛ فهو مجبر على إهدار الماء العذب فى رى الحدائق، وهو ملزم بدفع ضريبة مستترة لهذا الاستخدام، وإلا فعليه أن يستغنى عن الحديقة ويقتل رئة الطبيعة احتفالا باستضافة مصر لقمة المناخ COP27!
عندما حاولت أن أفهم الأمر بشكل أوضح تواصلت مع السيد رئيس الشركة القابضة للمياه، وفهمت منه أن مطالبات المياه فى المناطق الجديدة لا تتبعه، وإنما تتبع هيئة المجتمعات العمرانية. وعندما حاولت البحث عن أسعار المتر المكعب من المياه وفقا لما تنشره البيانات الرسمية، وجدت أن ساكنى الأحياء الجديدة يتحملون أرقاما مضاعفة عن أكبر شريحة يدفعها السكان فى أى مكان بالمدن القديمة وربما بالقارة كلها، حتى إن بعض المطالبات أخبرنى أصحابها بأنها احتوت على سعر للمتر المكعب لرى الحدائق قدره 12 جنيها، فى الوقت الذى تبلغ به أكبر شريحة للاستخدام السكنى أو حتى التجارى فى الأماكن الأخرى ما يقرب من ثلاثة جنيهات فقط! هذا إذن عقاب آخر مفروض على كل من صدق الحكومات وخرج إلى المناطق الجديدة لغزو الصحراء والأراضى الفضاء والمجتمعات الجديدة، وساهم فى إقامة مدن وأحياء للعيش بصورة آدمية بعيدا عن الضوضاء، وإفساح مجال للأجيال القادمة كى تنعم بالحد الأدنى من الفرص المتكافئة مع السابقين الأولين.
• • •
أذكر أيام الصغر كنا نشرب من ماء الصنبور مباشرة، لم نعرف الفلاتر ولم نكن نشرب المياه المعبأة. أما اليوم فنحن لا نشرب بل ولا نستخدم للطهى وإعداد المشروبات الساخنة إلا المياه المفلترة أو المعبأة بواسطة شركات خاصة، ولو أننا حاولنا خلاف ذلك لكانت التكلفة الصحية غير محتملة. تكلفة المياه أصبحت كبيرة جدا، وتفوق تكلفة الكهرباء فى كثير من الأحياء. صحيح أن الدولة مقبلة بصورة متزايدة على المعاناة من تداعيات الفقر المائى، لكن مجابهة تلك الأزمة لا تكون برفع الأسعار فقط، بحيث تدفع الطبيعة كلها ثمنا باهظا للترشيد الإجبارى فى استهلاك المياه. تجريف المساحات الزراعية وتبليط الحدائق الخاصة والعامة مثال صارخ على تلك الحال. الهواء النقى إذن تهدده فاتورة غير معقولة للمياه، خاصة مع سد مختلف البدائل على السكان، ومنها مثلا توفير مصدر للماء العكر أو السماح بدق آبار جوفية للاستخدام فى رى الحدائق.
أنا لا أوافق أبدا على إراقة الماء العذب بغير ضابط وبغير ثمن، ولا أوافق على دعم الهدر والإفراط فى الاستخدام. لكننى رغم ذلك أجد أن التحايل على الفواتير الباهظة يحدث باستمرار، ويتم بشكل منتظم عبر بوابات للفساد الإدارى أو عبر الزهد فى المساحات الخضراء وتجريفها حتى من قبل ميسورى الحال، وهى التى لم تعد من قبيل الرفاهية والوجاهة الاجتماعية، بل ولم تكن يوما كذلك، إذ هى ضرورة لاستدامة والمحافظة على استقرار المناخ، ومن ثم ضرورة حتمية لبقاء البشرية واستمرار الكوكب.
كاتب ومحلل اقتصادى