لم يعد الوصول للمعلومات هو المشكلة فى زمن الإنترنت حيث طوفان المعلومات عن أى شىء يخطر على البال. لكن المشكلة هى معرفة ما هو الصحيح منها. وها هى قصة قصيرة عن حادثة تحرش فى تركيا جرت فى أول أيام شهر يوليو وأدت إلى انفجار العنف من الأتراك تجاه المهاجرين السوريين، ثم عنف مضاد فى شمال سوريا ضد الأتراك، ليتبين بعد وهلة أن تفاصيل حادثة التحرش ليست كما ظن الجميع أنها من شاب سورى ضد فتاة تركية، ولكنها العكس بالضبط. وإلى أن ظهرت الحقيقة، جرت مواجهات مؤسفة كشفت عن ضغوط يمر بها الطرفان بسبب عدم القبول لظاهرة المهاجرين فى المجتمع التركى. ثم انشغلت مختلف الأطراف بتهدئة العنف، ولم ينشغل إلا القليل بكيفية التحقق من المعلومات وصناعة الوعى فى زمن طوفان المعلومات.
مثال آخر من السودان حيث يتطور القتال هذه الفترة بطريقة مقلقة للغاية، فالجيش السودانى فى حالة تراجع فى دار ــ فور (بلاد ــ الفور)، وفى جنوب شرق السودان، فى ظل تقدم الدعم السريع الذى يوشك السيطرة على أهم المناطق فى البلاد بمواردها الغنية لاسيما النفط، والذهب، والزراعة، ومياه النيل الأزرق، وتنحصر مؤسسات الدولة الرسمية فى آخر معاقلها ببورتسودان. لا ينشغل العالم بهذه التطورات ولا يتابعها الناس عن كثب. لكن أثارت هذه التطورات اهتمام بعض صناع المحتوى المصريين على منصات التواصل مع زيادة أعداد اللاجئين واللاجئات إلى مصر، لما فى ذلك من تأثير سلبى على الأوضاع الاقتصادية المتراجعة بالفعل. وانتشرت العديد من الفيديوهات قبل المؤتمر الاقتصادى المصرى الأوروبى نهاية شهر يونيو الماضى تشرح ما يتعرض له الاقتصاد والمجتمع المصرى نتيجة ظاهرة اللجوء، وأوصت بضرورة السيطرة على أعدادهم، وتحميل الجانب الأوروبى جزءا من أعبائهم على غرار ما تفعله تركيا مع اللاجئين السوريين. ومن حسن الحظ أن ما جرى فى تركيا ضد اللاجئين السوريين لم يحدث فى مصر حتى الآن ضد نظرائهم السودانيين.
• • •
لابد من أخذ تحذيرات صناع المحتوى على محمل الجد، لاسيما أن الموضوع فى بدايته، ولم يستمر سنوات كما هو الحال فى تركيا. فبعض صناع المحتوى يحذرون من التحديات الناجمة عن الاختلافات الاجتماعية والسياسية بين اللاجئين وبين المجتمع المصرى. وبعضهم يسلط الضوء على سلوكيات سياسية تثير حفيظة المجتمع المصرى مثل نشر بعض أصحاب الأعمال من اللاجئين لخريطة السودان تحتوى على شلاتين وحلايب. وكلما زادت هذه النوعية من الفيديوهات كلما زاد وعى جمهور المتابعين بأن المشكلة تكبر مع الوقت. هذا وبعض صناع المحتوى يطرحون مسألة أخرى لها علاقة بمدة الصراع فى السودان، فكلما طال أمد الصراع كلما استمرت مشاكل اللاجئين وتحدياتهم فى مصر، وكلما تراجعت قدرات الجيش السودانى على حسم المعارك، فمن أين يأتى بالمجندين فى ظل ارتفاع وتيرة الخروج من السودان؟ وكل هذا يعزز من موقف الدعم السريع.
وفى ظل غياب المتابعة الشعبية لما يجرى فى السودان، يطرح بعض صناع المحتوى بعدا آخر للمشكلة بخصوص دور الأطراف الخارجية، المؤيدة لميليشيات الدعم السريع.
أما ملف غزة الذى يشهد أكبر طوفان من المعلومات، والذى تقوم فيه فصائل المقاومة الفلسطينية بصناعة محتوى مدهش فى وسط المواجهات الدامية، حيث لا يخلو يوما من فيديوهات صادرة عن إحدى فصائل المقاومة الفلسطينية تكشف الستار عن عملية استهداف نوعى تنال من قوات الاحتلال الإسرائيلى وتنزل بها الخسائر المتتالية فى الآليات، والمعدات، والجنود. وكل هذا يمد صناع المحتوى بمادة وفيرة للتحليل، تكشف زيف الادعاءات الإسرائيلية، وتكشف حقائق المستوى الميدانى، وتصنع وعيا جديدا. لكن يبقى السؤال الأهم، وماذا سيحدث فى غزة فى اليوم التالى لنهاية القتال؟ وتتعدد إجابات صناع المحتوى، فمنهم من لا يرى ذلك اليوم يقترب بأى حال، ويرى أن وقف القتال معلق على سقوط حكومة نتنياهو، ومنهم من يرى المخرج فى اندلاع حرب لبنان، ومنهم من يرى الانحسار التدريجى للمواجهات والعودة للعمليات النوعية المركزة والتى تستهدف تحرير رهينة، أو استهداف أحد قادة فصائل المقاومة. وبدون الفيديوهات اليومية لصناع المحتوى لتشابكت الأمور فى ذهن الأشخاص المتابعين، وتاهوا فى وسط طوفان المعلومات والتفاصيل اليومية.
• • •
فى نفس المقام يأتى الاهتمام بالشأن الاقتصادى الداخلى، وهو الملف الذى يمس المواطن والمواطنة بطريقة مباشرة. وقبل تشكيل الحكومة الجديدة كان الشغل الشاغل لصناع المحتوى هو ملف التضخم، وسعر صرف الجنيه، والوضع الاقتصادى المصرى. ولكن بعد تشكيل الحكومة، استحوذت قضايا تمس شخصيات فى الحكومة الجديدة على الاهتمام. ولا أدرى ما هو المخرج من مثل هذا المأزق؟، فأى مسئول يراهن دائما على فترة سماح أولية بينه وبين الجماهير تمنحه فرصة لكى يعمل حتى تتعرف عليه ثم تبدأ المتابعة والانتقادات بناء على سياساته وأدائه، ولكن احد الوزراء فقد هذه الفترة قبل ان يبدا عمله، حيث الناس منذ اللحظات الأولى تشكك فى مؤهلاته، ومن ثم فى أحقيته بقيادة الوزارة، وبالتالى الوزير أمامه أيام مليئة بالتحديات، ولقد تحول إلى سردية نقدية يرددها البعض عن آلية الاختيار التى لا تفرز أفضل القيادات فى البلد، والتى يضاف إليها ما يردده رئيس الوزراء بنفسه بأنه قابل عشرات الشخصيات التى اعتذرت عن تولى المسئولية. قد يكون الحل فى اعتذار الوزير عن استكمال مهامه، وأن يقوم أحد قيادات الوزارة بالقيام بأعمال الوزير، أو يتم دمج الوزارة مع وزارة التعليم العالى والبحث العلمى كما كان الحال من قبل.
• • •
الشاهد أن صناع المحتوى تحولوا من خانة الهامش إلى خانة التأثير فى الرأى العام، وبعضهم يستحوذ على اهتمام بالغ من الأشخاص المتابعين. وكلما توسع صناع المحتوى فى تناول القضايا التى تمس السلم الاجتماعي، والأمن القومي، كلما زادت قدرتهم على صناعة الوعى.