ترجمة الكتب الكبرى المؤسسة، والأسفار المرجعية الضخمة، أمورٌ تستدعى الاحتفال والتنويه والإشادة، لذلك كانت سعادتى كبيرة بصدور الجزء الأول من ترجمة كتاب «الفولكلور المصرى»، للعالم الألمانى الفذ هانز فينكلر.
صدر هذا الجزء عن المركز القومى للترجمة، وقدّم له، وعلّق عليه، وكتب له العديد من الحواشى الشارحة، عالم الاجتماع الكبير د. محمد الجوهرى.
يُعتبر هذا الكتاب من أهم وأكمل المراجع عن «الفولكلور المصرى»، ولا ينافسه فى هذا الشمول سوى كتاب العالم الإنجليزى إدوارد لين عن «عادات المصريين المحدثين»، وإن كان كتاب فينكلر يتميز بمنهجه الدقيق، ويمكن اعتباره مقدمة لأطلس متكامل للفلوكلور المصرى.
فينكلر عالم إثنوجرافى ألمانى، عمل فى جامعة توينجن، وقام بتدريس فقه اللغات السامية فى جامعة القاهرة، وقُتل فى الحرب العالمية الثانية، ورغم أنه لم يكن ثريّا، فإنه كان شغوفًا بالعلم والبحث، وأمضى 5 سنوات يجمع مادة كتابه، وزار وأقام فى 23 قرية مصرية.
ومنذ العام 1929 إلى العام 1934، قدّم ما يقترب من المسح الشامل للريف والبادية، للآلات والمعدات الزراعية، وللعادات والتقاليد، للقصص الشعبية، ولطقوس الأفراح، ودفن الموتى، وسجّل ما شاهده فى الصعيد والدلتا، وفى الخارجة وفى الصحراء، وكتب عن الفلاحين والبدو والغجر، حتى الأغنيات والألعاب الساذجة سجلها بالتفصيل، وساعده تمكنه من اللغة العربية، قراءة وكتابة، على إنجاز كتابه الضخم الذى نشره فى ألمانيا فى العام 1936، ليصبح مرجعًا لا غنى عنه فى إعداد أى كتاب يتناول التاريخ الثقافى والاجتماعى للمصريين.
الكتاب الأصلى ترجمته كاملة ستطبع فى نحو 1000 صفحة، لذلك تقرر أن تصدر فى عدة أجزاء، أولها هذا الجزء الذى أخذ عنوانًا فرعيّا هو «يوميات عالم ألمانى فى الريف المصرى»، ولكنه أكثر من يوميات، فهو بمثابة مفتاح ومقدمة هامة لمشروع هينكلر لجمع الفولكلور المصرى والمنهج المستخدم فيه، والصعوبات والمشكلات التى واجهها، بالإضافة إلى تفاصيل بعض رحلاته، والشخصيات العجيبة التى التقاها.
تخيلوا معى أحد الخواجات، وهو يحمل معه أوراقه وأقلامه، وكاميرا فوتوغرافية، ويسأل الناس فى الريف المنعزل عن العالم، ثم يستفسر بالتفصيل عن كل شىء فى حياتهم، ويسأل أيضًا بدو البشارية والعبابدة فى الصحراء، ثم بعد ذلك يعود إلى المدينة، أو العاصمة، أو إلى أى فندق مثلًا، فيراجع ما جمعه، ويرحل من جديد لمواصلة رحلاته، مشيًا على الأقدام، أو بالمراكب الشراعية، أو بالقطارات، أو بالسيارات العادية، أو حتى باستخدام سيارات النقل، التى تنقل الماشية والدواب أحيانًا.
أما المشاكل التى تعرض لها، فلا حصر لها: من الظن فيه بأنه جاسوس، أو مشترٍ للأراضى، إلى احتمال تعرضه للسرقة أو القتل، خاصة أنه لم يكن يحمل سلاحًا، بالإضافة بالطبع إلى عدم فهم الناس لسبب هذه الأسئلة، أو رفضهم إعطاء معلومات تخص النساء، وطقوس الزواج ودفن الموتى، أو تقديم البعض لمعلوماتٍ غير صحيحة، جهلًا أو تعالما!
لكن هينكلر الذى يمتلك أسلوبًا دقيقًا، ومنهجًا محكمًا، وشغفًا وإرادة لا حدود لهما، نجح فى كسب ثقة معظم من عرفهم، وقدّم هدايا بسيطة لهم من البرتقال أو السجائر، ونجح فى اختيار الوقت المناسب للأسئلة، وإن لم يخل الأمر من مشكلات، مثلما حدث مع رجل أصر على أن هينكلر سيدخل النار، لأنه أجنبى مختلف الديانة!
أذهلنى التسجيل الشامل للبيئة المصرية فى تلك اليوميات، ولك أن تعلم أن هينكلر لم يكن يكتفى بسؤال شخص واحد، أو ما يطلقون عليه فى علم الفولكلور الشخص«الإخبارى»، ولكنه كان يكرر الأسئلة على آخرين، ليتأكد من الإجابة، وكان يخصص جانبًا من الملاحظات لوصف السلالات من حيث الشعر ولون العيون ولون البشرة.. إلخ، ويسجل بدقة تحوّل البدو إلى فلاحين، بل إنه قام بتقسيم مصر إلى مناطق وفقًا لهذه «التعددية الثقافية» وبشكلٍ طريف ومبتكر، إنه يكتب مثلًا إن هذا الحد الجغرافى تبدأ عنده لهجة مختلفة، ويقوم الناس بتحويل حرف «الجيم» إلى حرف «الألف».
شاهدتُ مصر بما بين الحربين فى حياتها النابضة، وفى أبسط وأفقر تجمعاتها، وتوقفت عند وصفه لسوق الجمال فى مدينة فرشوط، وقد رأيت هذا السوق، لأننى عشت وتعلمت لسنواتٍ فى تلك المدينة، ولفتنى بشكلٍ عام كرم الصعايدة والفلاحين والبدو، رغم حياتهم الصعبة، مع عدم تخيل أهل الريف للعالم المحيط بهم، إلى درجة أن بعض الفلاحين كانوا يعتقدون أن ألمانيا قريبة من اليمن، وكثيرون كانوا يسألون هينكلر عن موعد الحرب القادمة بين بريطانيا وألمانيا، وهو الأمر الذى تحقّق فعلًا بعد سنوات.
ومن أمتع فقرات الكتاب هذا التواصل الثقافى بين عالمين بعيدين، ليكتشف هينكلر مندهشًا أن بعض الأغنيات المصرية التى تشرح أسماء أصابع اليد، لها مثيل حرفى تقريبًا فى ألمانيا، وليسمع هينكلر مرة حكاية من أحد الفلاحين، فيكتشف أنها تقريبًا قصة «شايلوك تاجر البندقية»، وليشاهد المحراث فى الوجه البحرى، والذى يكاد أن يكون نسخةً من المحراث الإغريقى.
وفى رحلاته الصحراوية، سيجد هينكلر نقوشًا بلغات أجنبية، حفرها تجار عابرون، ينتمون إلى أقطار أوروبية، بل سيجد أيضًا نقوشًا رومانية قديمة.. سأعطيك نموذجًا لكتابة هينكلر الممتعة والتفصيلية، فى هذه الفقرة القصيرة:
«يتعلّم المرء من خلال التعامل مع الفلاحين كيف يستخدم عبارات المجاملة المعتادة، من هذا - مثلًا - أن يضع المرء يده على صدره عندما يتوقف الحديث، ليقول لمضيفه: «إزيك؟»، ليشكره الآخر قائلًا مثلًا: «الله يحفظك»، وأحضر لى أحدهم رغيف خبز، وقال: «هنيّا»، وأسعدهم جدًا أننى أجبته بالقول: «هنّاك الله»، وبدأوا يعتقدون أنى مسلم، وزاد اهتمامهم بأسئلتى».
أتمنى أن تجد ترجمة أجزاء هذا الكتاب ما تستحق من الدراسة والاحتفال، والحوار والتحليل.
هذه بلدنا الثرية بإنسانها وبيئتها وعاداتها وفنها، وهذه ذاكرتنا التى حفظها عالم ألمانى عظيم، يجب أن نمنح اسمه كل آيات التقدير والتكريم.